رمضان جريدي العنزي
كنا أربعة، قلنا سنزيح عن وجوهنا أغطية الملل، وعن نفوسنا دثار السأم. قلنا سنسافر؛ لنعيد لأرواحنا صهيلها. قصدنا (أبها)، تلك المدينة الجنوبية الباهرة. ركضنا خلف السحاب، جالسنا الغيم في (السودة)، والمطر في (المطل) أعلى قمة هناك. حاربنا السكون، أسلمنا أفواهنا للضحك، ركضنا خلف الغيم، وخلف الضباب، داعبنا السنابل، وأشجار الخوخ والدراق والمشمش، نبحث عن رنينين، وعن ملامح، نراقب السماء، والسحاب العابر فوق رأس المدينة، عابرين نبحث عن غيم وماء وشجر، ودالية نستظل بها، وصوت عصفور.. نفتح نوافذنا كل صباح، نرقب السماء، وحركة المارة، ونسمع صوت الباعة، ونرهف أسماعنا لصوت المؤذن حين يتلو النداء وقت الظهيرة، ونمزج الكلام بالنشيد، ونستخلص من الأشياء خلاصة الأشياء. جبنا قرى الجنوب الهادئة الجميلة، قرية قرية، نريد أن نحيا مناظرها البانورامية. زرنا قلعة (شمسان) و(دقل) و(الجسر العثماني) و(جبل سوداج) و(رجال ألمع) و(القرى التراثية) التي بقت شواهد مضيئة ضاربة في أعماق التاريخ. مررنا على الأسواق الشعبية، كسوق الثلاثاء، وسوق ربوع آل يزيد، وسوق سبت بني رزام.. اقتنينا التحف والتذكارات وبعض الأزياء الشعبية.. ذهبنا لبعض مراكز أبها (باللسمر، باللحمر، تنومة، شعار، بني مالك). جلسنا ذات مساء بين جبلين في (النماص) الوادعة، تسامرنا حتى مطلع الفجر، غسلنا أنفسنا بالضحك وبالنشيد، نفضنا عن أرواحنا الملل، أدرنا وجوهنا لضوء القمر، تذكرنا الضوء والفارس والراية، وخيوط المطر والكينونة وتفاصيل الخيل الضامرة ونسائم الوئام، وبيوت الشعر التي كانت مشرعة على مشرق الشمس في الشمال الأبي.. امتزجنا بخليط من السراب والحلم والواقع.. انشغلنا ببعضنا حتى نسينا التثاؤب، الرياح الباردة تهب علينا، والأشجار الضخمة ترقص وتهتز وتنود وتنثر شعرها.. نصعد التلال، وننتشي حينما نحاذي أشجار الياسمين.. ابتهجنا كثيرًا بالناس والجبل والوادي والمنحدرات والغابة والسوق ودكاكين العطارة، وقطاف التوت والعنب، ورائحة الفل والكادي.. لا شيء مثل الفرح والصاحب الفاخر.. كل شيء جديد تحت شمسنا. سددنا بعض ثقوب الوجع، استوقفنا مشهد رجل كهل يحمل بضاعته ببطن سلة مصنوعة من سعف النخيل، ينادي على بضاعته، مموسقًا صوتًا عذبًا، يدخل الطمأنينة على الروح، قال لي: أفكر بشراء أربع بقرات سمان، لهن ضروع نازة بحليب دسم، وضلوعهن ملابد لحم عظيم، وعيونهن مثل عيون المها بين الرصافةوالجسر، بقرات لا يشبهن بقرًا. كلامه مثَّل نصًّا جديدًا، أو معزوفة بديعة، ربما لوجعه، أو مخيلته التي يممت شطر التجرد من الواقع، ودعته لأمر على شجر التفاح الكثيف. في البعد المقابل صوت غناء يأتي من بعيد، ربما فرح أو شيء من هذا القبيل. في الطرقات الباردة نلوح للعابرين بالتحية والسلام.. لم نشبع من تذكُّر الماضي الذي كان، ولم ننضب من ماء السرد والمسرود. صحبتنا كانت رائعة، دلفنا الطرقات، والممرات الضيقة، وولجنا الدروب، كل قناعاتنا كانت منصبة في إراحة العقل والقلب وجلب السرور. كنا هكذا في كل حين، نقتنص لحظة الفرح، أو هي تقتنصنا، نكسر ساق المنصوب، ونرفع يد الساكن، ننام الليلة الليلاء على مثلها، ونحلم ونصحو ونفز.. ثمة حضور فاخر لحس الفكاهة والتنكيت والكركرة.. عشنا الدهشة والحيوية والمرح.. يممنا وجوهنا شطر المرح، وصوب العافية، نخفض جناح الحب، ونقيم متكأ له، مؤانسة وسعدًا كنا قد وقعنا عليهما كما لو كانا كنزًا من الكنوز الثمينة، فيا لها من متعة ثمينة ومرقاة، فمن كان منكم على سفر فليختَرْ (أبها) على وجه الخصوص، والجنوب كله على وجه العموم؛ ففي تلك الأماكن الغيم والضباب والمطر، فيها سعد وترويح عن النفس، ودعة روح وفرح ومؤانسة.. والسفر إليها يبقى بالذاكرة، مثل حقول مزروعة من دهشة فريدة.