د. خيرية السقاف
تلفتني نمنمات, وهمهمات صغيرة لا تغفلها ذاكرة من يسرد سيرته الذاتية, أو يتحدث عن نفسه, فإذا باليوم, والتاريخ, والمكان, والأطياف بأسمائها, والأزمنة بأوقاتها, والوقائع بتفاصيلها تنطق في سطورهم, تحضر كأنها اللحظة تحديداً تمثّل بين عيونهم..
يا للذاكرة, أو يا للذكاء
إما أنها حادة نشطة حيَّة لا تنسى, وإما أنهم أذكياء قد حفظوا لأنفسهم ما يمر في وسائلهم المختلفة..
وأذهب أداعب ذاكرتي, أهو مكرها حين لا تأتيني إلا بإطار الصورة خالياً من التفاصيل؟, أو أنها لا تقبض إلا على ما تنتقي من الكليات؟!..
وأدري أن للذاكرة أحوالها, وأفعالها, ما لم يكن المرء أكثر ذكاءً من مكرها, وأشد حرصاً على جُلِّه ودقيقه من كل الذي زامله حياته لحظةً لحظة, وحدثاً حدثا, ومكاناً مكانا, وزماناً زمانا, وشخوصاً وأطيافا..
أعود لأقف بين حدَّيْ برزخ الأجاجِ, والعذب لهذه الذاكرة, وأحلِّل حرص المدوِّنين كي لا يقعوا في فخِّ مكرها, وعبور أولئك العابرين الذين لا يأبهون بهذا والذين أنا منهم..
فأمنِّي النفس أن أكون في زمرة الذين يعبرون الدنيا بسلام, ويفيضون منها خالين من الأحمال بما فيها أحمال الذاكرة, فالدنيا في النهاية الحياة فيها إلى زوال, والمرء لا يعنيه منها إلا بقدر ما يفعله فيها وهو حيٌ, ناطق يتحرك, أما الذي سيأتي دونه, فما الذي سيكون منه للآخرين إلا ذكروه مما أثر به, ونفع, وبذر وأينع, وبث من عبقٍ كلما عبر به الذاكرون تشذَّوا, ثم ما يلبثون أن يفضوا إلى ما أفضى إليه!!..
الخلاصة, إن الصحف ستطوى, والأرض ستفنى,
أما الغيب الذي ينتظر فليس في مخيلة المرء, ولا مفتاحه في يديه..
فالمشي على الأرض هونٌ, والإيثار بالذات عونٌ..
والبقاء لما سيبقى هناك لا هنا!!..