د.محمد بن عبدالرحمن البشر
عندما وصلت أنباء اكتشاف سوتر للذهب في كاليفورنيا إلى أستراليا، أبحر عدد لا بأس به ممن يطمع في الوصول إلى الغنى من خلال ذلك الاكتشاف المبهر، وكان من بين أولئك المبحرين رجل يسمى أرموند هارغريغر، كان رجلاً طويلاً عريضاً وصفه المؤرخ بأنه «ضخم الجثة كالعجل»، وشارك الناس غسل تراب ذلك النهر لعله يحظى بشيء من تبر الذهب المتدفق على شكل شذرات، يسوقها الماء بعد نحته للجبال الحاوية على عروق الذهب الكامنة بين طبقات الصخور الجبلية بالقرب من مدينة سكرامنتو بولايى كاليفورنيا، وبعد عناء شديد، وغسل للتراب، شهور عديدة، لم يحظَ بشيء مما كان يأمله، لكن الأمل ظل يراوده، فاشترى بما تبقى لديه من مال، بعض المعدات ذات العلاقة بالبحث عن الذهب، ثم أبحر عائداً إلى موطنه في مدينة تبعد نحو مائة وسبعين ميلاً عن مدينة سيدني الأسترالية، فقد فطن إلى التشابه في التكوينات الجيولوجية بين ما هو موجود في تلك المنطقة في سكرامنتو الأمريكية، وبين ما هو موجود في منطقة ويلينقون الأسترالية.
في يوم من أيام عام 1851م، كان هارغريغر وأحد الأدلاء يمتطيان جواديهما، ويطوفان بأحد روافد النهر واسمه ماكويري، ووضع خمسة أوعية في مياه النهر المتدفقة من أعالي الجبال، ورأى شذرات الذهب في أربعة منها، وهنا شعر كما يقول إنه محاط بكمية كثيرة من الذهب، وفي تلك اللحظة الحاسمة، صاح بمرافقه قائلاً «هذا يوم مشهود في نيو سادث ويلز، سأصبح أنا بارونيت، وستمنح أنت رتبة الفارس، سنحتفظ بجوادي الهرم، ويوضع في زجاج ويرسل إلى المتحف البريطاني»، هكذا كان يحلم بمصير المكتشفين الثلاثة، هو ومرافقه والحصان، لكن أياً من ذلك لم يحدث.
ما أن تم الاكتشاف إلاّ والخبر ينتشر في المدينة كانتشار الريح، وهب سكان مدينته نيو سادن ويلز لينالوا نصيبهم من الذهب المنثور، ويذكر المؤرخ أنه بعد أن طرق الخبر آذان البشر، حتى اندلع الذكور رجالاً وصبياناً، وأفرغت المدينة من سكانها، كما يفرغ الخزان من الماء، وذلك في اندفاعهم نحو المناجم، وذكرت إحدى صحف سيدني، كما يذكر برنشناس «كأن مساً من الجنون المطبق، قد أصاب كل السكان تقريباً»، وما هي إلاّ ستة أشهر حتى بلغ عدد المنقبين عن الذهب في تلك البقعة خمسين ألفاً، ومن العجب كما يذكر المؤرخون لتلك الحقبة، أن الثلج ينقل من إحدى الولايات الأمريكية، ولمسافة خمسة عشر ألف ميل، ليحل بمدينة مالبورن الأسترالية، ثم يفرغ من البواخر ليوضع في عربات، وتجره الخيل لمسافة بضعة أميال، حتى يهنأ بالثلج أولئك المحظوظين الذين وجدوا شيئاً من الذهب.
بعد شهور اجتمعت كميات من الذهب، وضعت في أكياس، وحملت على ظهور البواخر لتبحر إلى لندن، وذلك في نهاية عام 1851م، وكانت الشحنة الأولى تزن 253 أونصة، وتوالت الشحنات حتى بلغ كمياتها في المتوسط نصف طن أسبوعياً.
لقد انعكس ذلك الاكتشاف الكبير للذهب على الصبغة الاجتماعية في استراليا، وقد كان للعمال نصيب الأسد من ذلك الاكتشاف، فهم المعتادون على العمل الميداني، والصبر على ظروف الطبيعية وقسوتها، وهكذا تحول عدد لا بأس به من العمال الأكثر خشونه إلى أثرياء وسادة يملأ بعضهم الغرور والخيلاء، حتى قال أحد المعاصرين «ليس المعيار، ما إذا كنت، بل ما أصبحت عليه الآن»، كما سمع رجال المناجم يقولون «نحن الآن الاستقراطيون، والاستقراطيون هم نحن».
تدفق قادمون جدد إلى أستراليا، وتحولت تلك المستعمرة البريطانية التي كانت منفى مرتكبي الأخطاء، والتي يبلغ سكانها 45.000 إلى أمة مزدهرة متنوعة الأعراق، متقدمة في جميع المجالات، تعتبر واحدة من أهم الدول في العالم.
لقد كان لموجة التنقيب عن الذهب تلك، أثراً كبيراً، فلم تعد مكاناً للمنفى، ولكن أصبحت مقصداً يقصده الباحثون عن الحياة الكريمة، حتى أن ربع رجال بريطانيا، تهافتوا على شراء بطاقات الذهاب إلى هناك، وتم إيقاف النفي إليها، فهي مطلب للجميع بدلاً من أن كانت مكاناً يخشى الذهاب إليه من وقع في خطأ يستوجب ذلك.
لقد كون الخليط الجديد من الأعراق، تعايشاً سلمياً، ووضعت القوانين، والأنظمة، وكانوا يحاكون بريطانيا العظمى في معظم شؤون حياتهم، ومازالوا تحت التاج البريطاني حتى عصرنا الحاضر.
لقد نال جزء من سكان الجزيرة الأصليين البرجينيز، نصيباً من ذلك التقدم، وبقي جزء منهم يعيش بالأسلوب الذي اعتاد عليه في السابق، مع شيء من معطيات العصر.
وهكذا كان لاكتشاف الذهب، ولذلك الرجل العصامي الذي لاحظ التشابه الجيولوجي بين ما هو موجود في ساكرامنتو، ومنطقته، الأثر في بناء أمه جديدة.
لذا فإن المهارة، وقوة الملاحظة غالباً ما تقودان إلى صنع ما هو جديد، وهذا ما نراه من اكتشاف للتقنية في العصر الحديث.