د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** في مرحلة الصِّبا المبكرة كنا نلازم آباءَنا كظلالهم؛ روحةً للمسجد وغدوةً منه، وذهابًا إلى السوق وعودةً منه، وانتظامًا في مجالسهم وخدمةً لهم، وعنايةً بمخرجات أحاديثهم، وتأملًا في مدخلات تكوينهم؛ فامتلأنا بما نرى ونسمع، ووعينا دلالاتها وإن لم نستوعب فواصلَها، وانعكست على كل طفلٍ طبيعةُ والدِه « أو وليِّ أمره» واهتماماتُه، وما يزال جيلنا مسكونًا بما علِمه خلال فترة الصبا وما تعلّمه، ولم يكن تأثير الأم أقلَّ، بل ربما فاق تأثير الأب، لكن الحديث هنا ذو مسارٍ ثقافي مختلف.
** كان الدرسُ الأهم في ذلك العمر المبكر الصمتَ في حضرة الكبار بإصغاءٍ غير مفتعل خلقته دهشةُ المتابعة لما يقولونه وما يفعلونه وما يتحاورون حوله، ومن عاش في ظل أبٍ متعلمٍ ومكتبة منزلية متنوعة وأصدقاءَ مستنيرين فلن يخطئه المزجُ المتزن بين الأفكار المجردة والواقع المُعاش دون التيه في تناقضاته وصدماته، ومن غير أن ينفصل الأغلبية أو تنفصم شخصياتهم لوجود مرجعية مستعدة لحمايتهم من اللوثات والتلوثات في مرحلة مضطربة أرهصت لنكبات العرب وأعقبتها.
** ربما ميَّز جيلَنا انعتاقُه قليلًا من الإسار المؤدلج أو المدار المبرمج؛ فلم يفتتن أكثرنا بالتجربة الناصرية التي سكنت وجدان الجيل الأكبر منا، مثلما لم تستطع الشعارات القومية اجتذاب اهتماماتنا، لكننا عشِينا بجدليات الدين والتراث والإيمان والإلحاد والإبهار والانبهار، وفينا من توقف حول مغازي الوعظ وأدبيات الخُطب، وشكك في جدوى الإبداع المترسم عبر خطى النظَّامين، وتساءل عن إثارة المشاعر في اتجاهٍ أحادي للتخلص من آثار الهزائم، وهو ما أشعل الجدل بين الإسلامويين والعروبيين بوصفهما فريقين متضادين يحمل كلٌ منهما مشروعه الخاص بالنصر.
** تلك هواجس جيلٍ اكتهل بل شاخ وصار أقليةً تنتظر الرحيل؛ فما الذي حكم ويحكم أجيال اليوم ؟ وهل يجدون ما يسمو بهم ليُديروا حوارًا حول الغد لا يُفسده استقطابٌ أو يسكنه ارتياب ؟ وإذا كانت مدارات زمننا لم تُوثقْ بما يُعطي أحكامًا موضوعية فإن أجيال اليوم تحتفظ بتسجيلاتٍ لتجربتها لا يقطعها صمتُ الاستماع أو توجيه الاتِّباع، ولا يحتاج الباحث لمعرفة مستويات أغلبية الشباب ؛ فلهم قنواتهم الرقمية القادرة على التوصيل والتواصل.
** يُعوزُ معظمَهم الأبُ المتفرغ لهم والمكتبة المؤصلة لأذهانهم والرموز القادرة على إقناعهم؛ أفيكونون جيلًا دون أساتذة لا تنقصهم الجرأة وإنما الفهم والتفاهم ، وإذ توارت ثللٌ عن الإفصاح تأسيًا حينًا وتوخيًا للحق أحيانًا فقد بقي فيهم من يسبق قولُه تفكيرَه ويسلبُ اندفاعُه دفاعَه من غير أن يجد في أوساطه ما ينأى بهم عن الغوغائية والارتماء.
** لا ريب أن لدى جيل اليوم إمكاناتٍ لم تتوافر لسالفيهم، وحين يُحسنون توظيفَها سيجد أبناؤهم ما يعتزون به توجيهًا وما يضيئُهم اتجاهات.
** للظلِ جلالُه وجماله.