د. جاسر الحربش
من المؤكد أن الإنسان يعطي أفضل ما يستطيع عندما يشعر بانسجام ذاته في المجتمع الذي يعيش فيه. على رأس درجات الاستعداد للعطاء يقف العسكري المرابط على خطوط النار لحماية أهله ومجتمعه قبل نفسه. هذا هو الوضع بخصوص سلامة المجتمع، فماذا عن سلامة الفرد في المجتمع، الجسدية والنفسية. من المرجح طبياً أن أهم عامل للوقاية من الأمراض النفسية والجسدية الحصول على القدر الكافي من التقدير الاجتماعي، أي إشباع التوق الذاتي للتقدير، أما الشفرة الوراثية والغذاء والطقس والمناخ فهي توابع في التأثير على صحة الإنسان. ثمة سؤال يشغل علماء الاجتماع والنفس هو كم للإنسان الفرد من هوية. الجواب الجاهز هو أن له عدة هويات هي المعرفة به اجتماعياً ووثائقياً ووطنياً ودينياً ومناطقياً إلى آخره. لكن هل بين هذه الهويات واحدة أهم من الأخريات وماهي. الهويات المذكورة كلها مشتبكة ببعضها، لكن الهوية الأهم والتي لا تطرح ولا تتداول اجتماعياً وإنما تناقش على المستوى العلمي والفلسفي فقط هي هوية الذات، أي هوية قبول الإنسان الفرد كما هو وأين يضعه مجتمعه وينظر إليه ويزنه.
بالنسبة لعلماء النفس والاجتماع، هوية الذات هي أم الهويات كلها، وفي غياب الاعتراف بها تصبح الهويات الأخرى انتسابات تكليفية ينخرط الفرد فيها دون السؤال لماذا. بالتعريف العلمي النفسي والاجتماعي، هوية الذات هي النفس الداخلية، هي الأنا، أو المن أنا. هذه الهوية الجوهرية داخل النفس تدور حول محور التوق إلى الاعتراف والتقدير مهما كانت القدرات والإمكانات الفردية متواضعة بالقياس الاجتماعي الهرمي. عدم الحصول على إرضاء هذا التوق، أو أنكى من ذلك انتقاصه والسخرية منه ينقص فعلياً من درجات الاقتناع بالهويات الأخرى، ما عدا التعبدية الخالصة لأنها شأن خاص بين الإنسان وربه لا شأن أو يجب ألا يكون للمجتمع شأن بها.
مسألة التوق عند كل فرد إلى إشباع التقدير الاجتماعي لذاته هو موضوع آخر كتاب للباحث في الاجتماع السياسي فوكوياما بعنوان : الهوية والتوق إلى الكرامة وسياسات الانتقاص. يستنتج فوكوياما عبر قراءاته الفلسفية قديمها وحديثها أن إنسان العصر البدائي ثم الزراعي البسيط لم يكن يحتاج بحكم التماثل الاجتماعي إلى تقدير ذاته الخاصة. بعد تعقد العلاقات البشرية وتنافس المجتمعات والدول ازدادت الحاجة إلى التقدير الذاتي تصاعدياً، ثم تحولت بعد الثورات العلمية والصناعية إلى تشريعات تهتم بحفظ كرامة الفرد داخل المجتمع لتكسب ولاءه وحسن أداءه. بعد الانتهاء من قراءة هذه السطور يستطيع القارئ الاستنتاج بأن الشعور بنقص التقدير للذات في المجتمع قد يجعل بعض الأفراد يلجأ للمخدرات أو ينتحر أو أن يطلق طالب النار على زملائه في المدرسة أو يلتحق بمجموعات متطرفة هدفها السبي والقتل الموجه ضد الآخرين المختلفين عنها في الهويات الفرعية، لأن هوية الذات في هذه الحالات لم تجد القنوات المناسبة لإشعارها بالقيمة الفردية وإشباع استحقاق الشعور بالكرامة.