د. محمد عبدالله العوين
كنت في المرحلة الثانوية أتلقى معارفي بالقبول المطلق، ربما لأنها كانت مرحلة اكتشاف وتحصيل وليست مرحلة غربلة وتفكير، لا أعلم كيف انقلبت على التلقي المطمئن إلى التلقي المتسائل المتفكر، لعل في ذلك خيرا، فقد كنت أقرأ بنهم كل شيء ؛ تاريخا وفلسفة وروايات وشعرا ومجلات من كل نوع ولون، وانغمست في موجة كتب الإخوان المسلمين، فلم أدع كتابا لحسن البنا ولا لسيد قطب ولا لعبد القادر عودة ولا لمحمد قطب ولا للمودودي ولا للندوي ولا لكامل الشريف ولا لفتحي يكن إلا قرأته، غير مبتعد في المقابل عن كل ما كتبه طه حسين، فقد شغفت بأسلوبه الساحر وبنظراته النقدية العميقة المتأملة، حتى إنني شبهته بلص لطيف يخاتلك وأنت لا تعلم، فما تدري إلا وأنت واقعا في خلبه مستسلما لآرائه متقبلا مقولاته، ولم أبتعد عن روايات توفيق الحكيم ويوسف السباعي ومحمد عبد الحليم عبد الله وإحسان عبد القدوس ونجيب محفوظ وجورجي زيدان وغيرهم ممن يقفون في الطرف الآخر المناوئ لاتجاه الجماعة، وكما أنني كنت أقرأ « الاعتصام « بانتظام وهي مجلة الجماعة الرسمية والمجتمع الكويتية الصادرة عن جمعية الإصلاح الإخوانية كنت أجد نفسي حريصا على قراءة أدق تفاصيل «روز اليوسف» و»صباح الخير» المصريتين ذواتي التوجه اليساري، مع اهتمامي بالمجلات الرصينة كالعربي والهلال ونحوهما.
لا شك أنني حين وجدت نفسي على مقعد الدرس الجامعي أمام أسماء رنانة وأساتذة كبار كنت لا أمثل ذلك الطالب المستسلم في المرحلة الثانوية ؛ فقد كبر الطفل البريء في داخلي وتمرد على نفسه ؛ فلم تعد كتب الجماعة تشوقني ولا مجلاتهم تثيرني ولا ما يسمونه « جهادا « أو تضحية في سبيل « الأمة « يشدني، ولم يعد مفهوم الأخوة والاجتماع والتزاور مطلبا لي كما كان في السابق ؛ بل أصبح ثقيلا على نفسي، حتى أعلنت الانشقاق والنفور عن كل أخ وعن كل زائر، وبدأ مرجل نقدي يغلي في داخلي يفحص ويقلب الأفكار ويتأمل في التيارات والأحكام النقدية، حتى أصبحت وحيدا في طريقي لا شريك لي ولا نصير ولا محاور إلا نفسي، ربما كانت هي الغربة النفسية التي يتحدث بها علماء النفس، وها أنا قد وقعت فيها.
كان الاصطدام الأول العنيف في مواجهة فكر الجماعة مع الأستاذ الدكتور محمد محمد حسين صاحب كتاب « حصوننا مهددة من داخلها « و» الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر « و» الهجاء والهجاؤون في الجاهلية « وكتابه الأخير هذا الذي ضم دراسات عن شعراء الهجاء في الجاهلية ومنهم حسان بن ثابت - رضي الله عنه - كان مدار الاختلاف في قضية نقدية لا زالت محل أخذ ورد إلى الآن عن شعر حسان في جاهليته وإسلامه أيهما أكثر إبداعا.
لم يكن مشفقا علي حين خالفته الرأي وأنا الباحث الذي يبدأ خطواته الأولى في سلم البحث العلمي فخسف بدرجتي! يتبع!