د.فوزية أبو خالد
يعتبر بعض نقاد الأدب في التقاء نادر مع النقد السياسي بأن بدر شاكر السياب لم يؤرخ فقط واقع العراق أشواقًا وأشواكًا بـ(قصيدة أنشودة المطر) المشهورة لموضوعها الوطني دائم السخونة ولشكلها النافر باعتبارها من بواكير شعر التفعيلة الحر المتمكن بجمالية شاهقة وموجعة, بل كتب أيضًا بسله الرئوي بكائية ما كان من أمر منطقة الخليج برمتها، كما كتب بريش الشعر قلق الأمل على مآلات العراق والخليج ككل. ولفهم هذا التواشج المصيري المعقد بين الماضي والحاضر في تحديد مسارات مستقبل المنطقة فهمًا شعريًا على الأقل وليس سياسيًّا بالضرورة لا بد من الرجوع للقصيدة وقراءة نبرتها التفجعية في التأرجح الطائش بين مد الرجاء وجزر اليأس في قراءة لوح أقدار المنطقة من العراق لعمان ومن الكويت للخفجي ومن المنامة لدبي ومن الشارقة للدوحة ومن الظهران لأبوظبي. وهذه مقتطفات من شظايا قصيدة أنشودة المطر التي قد غنيت بأكثر من لحن ومنها رائعة محمد عبده، كما قد انتشرت بأكثر من عنوان ومنها عنوان حزن ومطر، ومنها عنوان أصيح في الخليج الذي اخترته عنوانًا لهذا المقال:
عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحَرْ،
أو شُرفتان راحَ ينأى عنهما القمرْ
مطر
مطر
مطر
أتعلمين أي حُزنٍ يبعث المطرْ؟
وكيف يشعر الوحيد فيه بالضياعْ؟
بلا انتهاء - كالدَّم المراق، كالجياعْ،
مطر
مطر
مطر
أصيح بالخليج: (يا خليجْ
يا واهب اللؤلؤ، والمحار، والرّدى!)
فيرجعُ الصّدى
كأنه النشيجْ:
(يا خليج
يا واهب المحار والردى
مطر مطر
لم تترك الرياح من ثمودْ
في الوادِ من أثر
أكاد أسمع النخيل يشربُ المطرْ
والقرى تئنّ، والمهاجرين
يصارعون...
عواصف الخليج .... منشدينْ:
مطرْ...
مطرْ...
مطرْ...
وفي العراق جوعْ
رحىً تدور في الحقول... حولها بشرْ
مطرْ...
مطرْ مطر مطر ....
أصيح بالخليج: (يا خليج..
يا واهب اللؤلؤ، والمحار، والردى!)
فيرجع الصدى
كأنّه النشيج:
(يا خليج
يا واهب المحار والردى)
وينثر الخليج من هِباته الكثارْ،
وأسمع الصدى
يرنّ في قاع الخليجْ
مطرْ مطر...
مطرْ......
في كلّ قطرةٍ من المطرْ
في عالم الغد الفتيّ، واهب الحياة
يهطل المطرْ
* * *
إذن باستعادة هذه القصيدة ليس من أرشيف الشعر وأرفف الكتب ولكن من كاميرا ذاكرة الوجدان، وذاكرة الجسد بتعبير الروائية الجزائرية أحلام مستغانمي، نجد أن القصيدة لم تؤرخ السيرة الاجتماعية والسياسية للعراق ومنطقة الخليج بل سجلت بتجلٍ إبداعيٍّ شديد «لقطة الخلود في عين العاصفة» التي تعيشها المنطقة يوميًّا على مدى تاريخي لا تبدو له نهاية. كما أنها استطاعت ببراعة الحزن وحدس الشعراء أن تسجل «العرض الدرامي المفتوح الدائم» الذي يقام على أرض المنطقة صباحًا مساء حتى في حالة التقلبات الحادة بين حالة الفقر المدقع إبان العيش على الغوص وصيد اللؤللؤ ووحشة الغياب ولؤم الشظف وبين حالة الغنى الفاحش من بعد اكتشاف النفط إبان العيش تحت رحمة الرفاه ووحشية الاستهلاك وتبلد الغفلة, وما جرّه وضع الدول الريعية على المنطقة من طيور أجنبية وإقليمية وداخلية جارحة.
والسؤال الذي من حق القارئ لهذا المقال دون أن يحتاج لإجابة مني فقد تكون له طريقته في بحث إجابات أفضل مما قد أقدم، هو سؤال ما الذي استجرح القصيدة الآن ودفعني لتذكرها إن كنت قد نسيتها قط، والكتابة عنها أو عن موضوعها. وإجابتي المحدودة ببساطة وشفافية هي أن ما استدعى القصيدة هو ليس موضعها على إطلاقه وحسب بل هو أيضًا على وجه الدقة والتحديد «جرح الشجن» الذي يستنزفه في ضمير كل حي حر اليوم تخبط العرب أمام جبروت حيتان الاحتلال الصهيوني المتمثل في دولة الاستعمار الاستيطاني المقام على أرض فلسطين.. العدو الإسرائيلي وممارسته القتل أمام أنظار العالم ومهادنة العرب.
ورحم الله أمل دنقل حين كتب قصيدته قبل واحد وأربعين عامًا بعد عملية التطبيع الفاشلة بين الرئيس المصري السادات وبين العدو الإسرائيلي لتثبت صحتها يومًا بعد يوم وجيلا بعد جيل:
لا تصالحْ!
..ولو منحوك الذهب
أترى حين أفقأ عينيك
ثم أثبت جوهرتين مكانهما..
هل ترى..؟
هي أشياء لا تشترى..
وفي هذا السياق كان لا بد أن أنقل هنا حرفيا الكلمة المترجمة الموجودي على اليوتيوب للناطقة الإعلامية باسم المسرح الوطني النرويجي:
«سيداتي سادتي، هذا يوم عظيم للمسرح النرويجي الوطني الذي نعتذر فيه عن التعاون مع «هابيما» مسرح الاحتلال الإسرائيلي. فعندما وقع مدير مسرحنا الوطني مذكرة التعاون مع «هابيما» لم نكن على علم مطلقًا بالدور المشبوه الذي تقوم به «هابيما» كمؤسسة فنية مستقلة مفترضة في دعم وحشية الاحتلال وفي محاولة ترميم صورة إسرائيل كدولة احتلال استيطاني عنصري بإضافة لمسات من الفن والأدب لتزيين وجه دولة الأربتايد البشع الذي تمثله إسرائيل. لم نعرف لأننا مع الأسف لم نبحث، فكنّا ننعم بجهل جارح ومخجل ولكن عندما علمنا أن هبيما تقوم بتقديم برامج مسرحية وفنية لتسلية جنود الاحتلال بعد كل عملية قتل جماعي وفردي يقومون به في حق أطفال فلسطين والمدنيين العزل صار من واجبنا الأخلاقي مقاطعتهم مقاطعة لا رجعة فيها إلى أن يتراجعوا عن احتلالهم العدواني. فهذا صراع لا يحل بالحوار بين أطراف متنازعة ولا بالتبادلات التجارية ولا الابتسامات الدبلوماسية لأنه ليس خلافًا في وجهات نظر ولا سوء تفاهم فكري يحله الجلوس معًا وتبادل أحاديث عاطفية ليحل ملاك الحب محل شيطان المحو إنه صراع استعمار قائم على ممارسة الكراهية العنصرية وعلى الإرهاب المسلح وعلى الاحتلال من قبل إسرائيل التي لم تكن لتقوم إلا على أنقاض شعب وأرض. ولهذا لا سبيل لنا إلا سحب أي تبادل تمثيلي معه أو مع أي من ممثلياته بين قوسين (الأدبية المسرحية الفنية الرياضية كهابيما وسواها», ناهيك عن أي تمثيل سياسي أو تجاري أو دبلوماسي»
فالنرويج شعبًا وأرضًا وفنًا وثقافة لا يريدون التورط مع أنظمة فاشية زائلة.