د. خيرية السقاف
للحظات, من أجل فرصة مؤقتة لو نبتعد إلى هناك.. هناك ..
في موغل الوحدة مع أنفسنا فقط..
لعلنا ندلقها, نتفقَّدها, نتحدث إليها, نلاطفها, نطهرها, نغذِّيها, نأخذ بها خارج ذاتها الموبوءة بالأحزان, المغمورة بالخيبات, المفعمة بالبكاء, نخلِّصها من الشوائب, والفائض, والبقايا..
تغرينا لهذا أجواء الندى, ومنابت الفياض, وعشب البراري, ورائحة التراب, وسِحر السحب, ووعد المطر إذ تحيطنا الآن..
تحرضنا للإيغال في هدوء الصحراء, والامتداد مع بسطة الفضاء, والتنعّم بلمسات النسيم, والإصغاء إلى حفيف الشجر البري, ولمعة رؤوس الروابي, ومنازل الغدران, ورهجة ماء البحيرات الموسمية, وأسراب الإبل تتمخطر في مراعى النعيم..
ماءً عذبا, وخضرةً رضية, وانبساطاً ممتدا..
توحي لنا للابتعاد عن صخب المدينة, وعوادم العربات, والأفران, والآلات, وأغبرة البناء, وضجيج اللاهثين, وفحيح الغوغائيين, ودكن الانتهازيين, وكذب المتلونين, وبؤس المعوزين, وتسلط المتكبرين, وظلامة الحاسدين, وجروح الأحبة, وآلام العاجزين, وعجز الحيلة, وحيرة المآزق, والمرور الصعب بأعناق الزجاجات..
تدعونا إلى هناك حيث الصمت الناطق, والوحدة الآهلة, والصوت من منبت العشبة, للبسمة فوق جناح سحابة, وسماءً كأنها تمشي في دعة مدى ناظرينا..
هناك تكون اللحظة المنتظرة للقاء الذات بذاتها, والسمع بصوته, والذاكرة بمحتواها, والقلب بنبضاته, والعقل بقوائم مفرداته..
حيث على مدى المدى تنفرد صفحات هذه الذات للقراءة المفصلة..
نعيد بها ترتيب العناوين التي تداخلت, والتخلص من الفائض الذي اشتبك, والمحترق الذي شاط, والغامض الذي أوغل, وكل الذي تجاوزنا به, والذي أسرفنا فيه لنتطهر تماماً من كل ذلك, ونستعيد براءتنا, ونعود بفطرتنا..
هناك تدعونا أجواؤنا المؤقتة, لمواقع مفاتيح آجالنا المنتظرة:
لنعود وقد حُمِّلنا منها بكل إجابة للأسئلة المقلقة في صدورنا, لعصافيرها التي تزحمها, تبحث عن زادها فيها..
لنؤوب من البراري الفائضة براحة هذه النفوس المتعبة, بنقاء هذا الذهن المكتظ, بطيب الحس المخدَّش بالذي يحتوينا من الصخب, بصفاء الجوارح من روائح الحرائق البشرية, وأبواق الأصوات المتداخلة, ووخْزات الرماة الغادرين بإنسانية الإنسان من حولنا, في القرية الكبيرة التي نعيشها كل لحظةٍ بعمرٍ في المتاه..
هناك في البراري, في امتداد الصحراء, في جِنَّات الطبيعة, وجمالها الأخَّاذ سوف نخْلُصُ من التراكمات, نغتسل في الهِبات, نولد من جديد على الفطرة المشتهاة!!.............