عبده الأسمري
حينما تفوق العلماء والفلاسفة المسلمين منذ قرون طويلة ولا تزال علومهم تستعمر مكتبات أوروبا وأمريكا وآسيا وعانقت أطراف القارات وعندما باتت أوروبا تقرأ روايات نجيب محفوظ وتندهش من مؤلفات مصطفى محمود وتتعجب من إنتاج طه حسين وتبحث عبر وفودها عن تفاصيل حياة محمود درويش والطيب صالح وغيرهم من الأدباء بعد أن وجدت فيها الاكتمال والامتثال لتحويل الأدب إلى مناهج ونظريات.. لم تكن هذه المنتجات الأدبية والعلمية لتكون بهذا الرقي والجودة التي عانقت العالمية لو لم يكن أصحابها أصحاب ملكات «تفكر» عجيبة حولوها بالقراءة والبحث والنقاش إلى تفكير ناطق على الورق ومنهجية أجبرت الأعداء إلى التصالح مع أدب الخصم والانتهال منه والاعتراف به .
ولم تكن تفاحة نيوتن سوى ثمرة ناء فرع شجرة بحملها فسقطت ولكن اليقين وملاحقة التفكر الذاتي قادت هذا العالم إلى قانون عظيم ظل علما مدروسا ومنهجا معروضا مدى الحياة يتعايش معه كل البشر. في عقل كل إنسان ملكة «تفكر» مرتبطة بما يراه ويعايشه ولديه ارتباط دائم مع كل مكونات الحياة من زمان ومكان وبشر وخلائق يعج بها هذا الكون الوسيع.. بعض العباقرة توجه تلقاء بوصلة لا تتوقف من الدوران في كل الاتجاهات باحثا عن ضالته وصولا إلى يقين المعرفة ليشبع غرور نفس لاهثة وراء البحث حتى يتجاوز محيط «الروتين» ويقفز من على أسوار «التلقائية» حتى ينتهي به المطاف لتسجيل فكرته الخاصة في أجنداته ومن ثم اخضاعها لملحمة من التفكر والتفكير لتكون منهجا للآخرين وعلم تتوارثه الأجيال.
عندما يظل الشاعر قابعا وراء مكتبة منكبا على أوراقة سيظل دائرا في فلك تجاربه الخاصة بشعر اعتيادي تنقصه «البصمة» والتفرد مالم يخالط الناس ويتنقل من معايشة حياة البسطاء مرورا بمتوسطي الحال وحتى مواقع الأثرياء لينقل الحدث مقترنا بالتفكر ولن تكون نصوصه متوارثة رغما عن تعاقب السنين ما لم يكن الإنسان قضيته وهموم الآخرين مركزيته التي ينطلق منها ..وعندما يختار الروائي فكرة ليسقطها نصا مكتوبا خياليا فإنها تظل «رتيبة» ما لم يخرج للشارع ويرى البشر ويتابع مكونات الهموم اليومية ويشبع عقلة بتفكر يؤول إلى التفكير حتى تخرج روايته من عنق «الاعتياد» إلى أفق «السداد» وحينما يدور الباحث بين المكتبات وراء المراجع فإنه سيظل ناقلا للمعرفة حتى وإن تفنن بالتغيير في الإنتاج ولكن أن أخضع الأفكار لتفكره الخاص وتدبره الذاتي فسينقل إنتاجه من «التكرار» إلى «الابتكار».
للتفكير فلسفة خاصة تنطلق من منصة «التفكر» فمتى ما استندت الأفكار على تدبر عميق فإنها ستسير في درب من التدبير يرتب الإنسان فيه أوراقه وفق منهجيه عقله..
الأمر لا ينحصر في العلم والمعرفة والإنتاج ولكن الحياة بكل تفاصيلها تحتاج إلى التفكر.. فالسنن الكونية تحيط بنا واعجاز الكمال الرباني يرسم لنا «خارطة التفكر والتدبر» في آيات الكون وسلوكيات الإنسان وتجارب المحيط البشري الممتلئ بالعبر والاعتبار..
التفكر منهج قائم بحد ذاته ومتاح لكل إنسان يملك عقل عليه فقط أن يبحث في تغيرات الزمن ومتغيرات الحياة وتبدلات الأحوال وتحولات المصائر ليأخذ العبرة ويسلك الطرق بمنهجيته الخاصة القائمة على التفكر الذاتي موجها تفكيره بتخطيط نفسي وسلوكي واجتماعي نحو دروب العيش ومسارات التعامل.. فالتفكر ضرورة في رصد ما نمر به من ابتلاءات ومحن ومواقف ونعم وإنجازات كي نقارنه بمعطياتنا الشخصية ثم نرسم مشهد حياتنا بتفكر بعيدا عن تلقين الآخرين أو حشو عقولنا بتعميم تجارب لا شأن لها بها فالزمن يتغير والحال يتبدل ويبقى الإنسان من يفكر ويتعاطى مع كل ذلك وفق خواص عقله وروحه وطموحه سواء كان عالما أو مبدعا سيضيف لرصيد البشرية إنجازا يكتب على صفحات التاريخ أم بشرا من سلالة «آدم» له «هويته الحتمية» كإنسان كي يعيش باتزان فكري يجعل تعاملاته تصب في صالح دنياه ومصلحة آخرته بعيدا عن الأهواء الشخصية.