د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
كيف يدرك تمكّن الفساد من مجتمع ما؟ عندما يتحول لثقافة وعندما يُنظر للفاسدين على أنهم أفراد مجتمع ناجحون متميزون، وعلى أنهم من يعرف من أين تؤكل الكتف، الأقدر على فهم دهاليز البيروقراطية، ومن يملك مهارة الالتفاف في زواياها المشروعة، وشبه المشروعة، وغير المشروعة والخروج من ذلك بأعلى المكاسب وأقل الأضرار. وما إن ينتشر الفساد ويصبح ثقافة يسارع تطوره الأنظمة بل ويستبقها أحيانا، ويصبح القضاء عليه باهض الكلفة وربما أكثر من كلفة التعايش معه.
في الآونة الأخيرة أفردت دراسات الإدارة الحديثة للفساد الأخيرة تخصصًا خاصة به يعنى بقواعد تشخيصه، ظواهره، وكيفية تفشيه وانتشاره. لِمَ لا وهو ظاهرة تعولمت بشكل تلقائي ذاتي، فعبرت الحدود متكيفة مع تفاوت المجتمعات، واختلاف تركيباتها السياسية، وتنوع أنماط إنتاجها الاقتصادية، وتباين طبيعتها الاجتماعية، وفروقات نظمها القضائية. فساد اليوم عابر للقارات له دول خاصة تُعنى به كملاذات آمنة تمنحه شرعية خارج الشرعيات الوطنية والإقليمية. وحجم الفساد اليوم يقدر بالمليارات وليس الملايين. والفساد سبب رئيس في الأزمات الاقتصادية الدولية المتلاحقة، ولو استمر بالنمو على هذا المنوال ربما يدمر الاقتصاد العالمي برمته.
ولا يقتصر الفساد على قطاع بعينه، فهو يطال القطاع العام، والخاص، وشبه العام، وشبه الخاص. وأثبتت الدراسات أن الفساد من أهم عوامل تعطيل التنمية وكبح النمو المجتمعي، ومن الأسباب الرئيسة لطرد الاستثمار الأجنبي السليم. والفساد، كما يعرّفه الباحثون علميًا: خيانة الأمانة من قبل المسئول عنها، مهما كان وصفه أو حجمه أو رتبته. ولا يتعلق بالضرورة بالاختلاس، أو التزييف، أو الرشوة ويشمل أيضًا التصرف بغير أمانة وصدق بالصلاحيات المفوضة، أو المسئوليات المناطة، ومن ذلك الإهمال المتعمد الذي يترتب عليه الضرر، وسوء الأداء، والتفرقة بين المرؤسين، واجتباء المعارف، والأصدقاء، والأقارب. وحسب لجنة الشفافية العالمية: « الفساد هو سوء استخدام الصلاحيات العامة للفائدة الخاصة».
يزدهر الفساد حسب رأي بعض الباحثين بسبب الفروق الاجتماعية التي يراها الناس غير مبررة. وقد تقود المنافسة الاقتصادية القوية إلى بعض الممارسات غير الأخلاقية التي تمليها حدة المنافسة. ويعتبر تدني مستوى التعليم وفشل التربية الأخلاقية عاملين مساعدين لانتشار الفساد كمًا وكيفًا، فكلما تدنى مستوى التعليم انتشر الفساد، وكلما تفشى الفساد انحدر التعليم. ومن أسباب انتشار ثقافة الفساد اتساع الفجوة بين قيم المجتمع والممارسة الفعلية لهذه القيم، فعندما يتم التخلي التدريجي عن بعض القيم الأصيلة لمجتمع ما يتم النظر لقيم أخرى متعلقة بنبذ الفساد على أنه يمكن التخلي عنها أيضا، فتختلط نظرة الناس لما هو سوي وغير سوي بحيث تتحول بعض المعايير غير الأخلاقية إلى أنماط سلوك مقبولة فتنتشر ما يمكن تسميتها ثقافة قبول الفساد. من هنا تتكّون ثقافة تتعايش مع الفساد دون المشاركة فيه ضرورةً وتتجلى في الاعتذار المتكرر للفساد بحيث يتحول رفض الفساد من قيمة اجتماعية مشتركة ملزمة إلى خيار فردي غير ملزم.
و ذكر الباحثون أيضا أن الثقافات التي تهتم بالمستقبل يكون تركيزها على النمو والتطور والمنافسة فتهتم بالتخطيط السليم وتحرص على الحفاظ على الموارد، والاستخدام الأمثل للدخل، وهي عادة أقل عرضة للفساد. فالحرص على المستقبل يدفع تدريجيا للعمل المؤسسي، ويؤثر بالطبع على طبيعة شكل المؤسسات، واختيار القيادات الكفؤة لها. أما الثقافات التي يكون توجهها للمستقبل من خلال التركيز على الماضي فهي تُخضع تخطيطها لمقاييس الأعراف، والتقاليد، والقيم، المتوارثة، وعِبر التاريخ القديم، ويكون فيها التخطيط فردياً قصير النظر، وينصب التركيز فيها على الحاضر وسبل الاستمتاع به دون النظر في عواقب المستقبل، وفيها تنتشر عادات البذخ، والتفاخر، والإهمال وهي ثقافات مؤهلة لتفشي الفساد.
وتذوب المصالح الشخصية في المجتمعات ذات البعد المؤسساتي في المصلحة العامة فيرى الفرد مصيره مرتبطاً بمصير أمته ومجتمعه. ورغم كون الفساد ظاهره عالمية تتشابه في كونها عملاً غير أخلاقي مضراً بالمجتمع فهي تختلف أشكالها وأحجامها وطبائعها من قِطر لآخر، فلكل بلد خصوصيته الفسادية التي تنبع من طبيعته وتكيف نفسها مع نظمه. ومكافحة الفساد لا يمكن أن تؤتي أكُلها بمحاربة ممارسات الفساد فقط، لأن هذه الممارسات مثل الحشائش الضارة المميتة تنتشر بوتيرة أسرع من مكافحتها، فلا بد من مكافحة الثقافة التي تنتج الفساد، ومعالجة التربة التي ينمو فيها.