د. سعيد بن محمد المليص
أهداني الأخ أبو ياسر الأستاذ صالح بن عثمان الرمادي (كما يحلو له بأن يسجّل اسمه متبوعًا بتبعيته لقريته الجميلة). بعضاً من مذكراته سجّلها تحت عنوان (خطوات في ميادين الحياة). ولقد سعدت بهذا الإهداء لأسباب منها أنني أعرف صالحاً في طفولته المتأخرة وصباه ثم شبابه وما تبع ذلك. إذ يجمعني به صداقة متينة بين البيتين، عثمان بن محمد الرمادي وبيت آل المليص؛ صداقة عجيبة ورباط محبة بين العائلتين ما زالت ذكرياتها تدق ناقوسها كلما مر ذكر عثمان وآل المليص، رحم الله من سبقنا منهم وأمد في طاعته عمر من تبقى.
وبتقليب صفحات تلك الذكريات وجدت صالحاً يعيدني لذكريات عشتها في السبعينات الهجرية من القرن الماضي ومنها ذلك الصحن الجميل الذي كانت تعده عمته حليمة ووالدته مسفرة تحت نظر العم عثمان - رحمهم الله-. صحن فيه نوع الخبز الذي أشار إليه صالح وبجواره طاسة السمن، المطعم برائحة الريحان، التي عادة ما تحتوي قليلاً من العسل ليضفي على المائدة مذاقاً لا نظير له، وغالباً ما كان العم عثمان يردد إصراره المقرون بالحلف من أجل الاستزادة من الأكل علماً بأن أحداً في تلك الأيام لا يكاد يصدق بجلوسه إلى مثل تلك المائدة وغالباً ما كان يحضر مع هذا تمراً وموزاً. مائدة لم أَجِد مثيلاً لها في المذاق حتى الآن.
عثمان بن محمد كان أيقونة الكرم والتقوى، والعجيب أن هذا الأسلوب كان ديدن كل مَن عرفت في ذلك البيت خلال زياراتي المستمرة طوال بقائي معلماً ووكيلاً لمدرسة الجبل والرمادة، وإنني أثني على ما ذكره (المشاكس) -كما سماه صديق الجميع د. سعيد أبو عالي - صالح عن والده ووالدته وحرمه رحمة - رحمهم الله جميعاً- وكذلك عن ابن عمه وخليله الدائم غرم الله. عائلة صهرتها التقوى والجود في ذلك الزمن.
وما جعلني أمسك قلمي لأسطر هذه الكلمات هو تلك العائلة الكريمة وما ذكره صالح عن أقرانه الذين سعدت بتتلمذ معظمهم - علماً بأن الكثيرين منهم أكبر مني سنا- على يدي أنا وزملائي في مدرسة دار الجبل الأستاذ علي الكردي مدير المدرسة آنذاك والأخ سعيد البحيري - أمد الله في عمريهما- وكذلك شيخنا وأستاذنا راشد بن أحمد وعبدالله بن خضر وعبدالرحمن بن عيسى وهاجس بن علي وعلي مسفر دماس وعلي بن حامد - رحم الله الجميع- وبعض من الزملاء العرب، أما صالح وبعض من رفاقه فقد كانوا في صفوف متقدِّمة حين افتتاح مدرسة دار الجبل والرمادة وتقلبوا في دراستهم ما بين مدرسة الجبل والرمادة ومدرسة بني ظبيان بعراء.
لقد أثار حديثه عن صحبه لواعج الشوق إليهم وإلى تذكّر تلك الأيام التي كانوا فيها يغدون ويروحون إلى المدرسة بانتظام عجيب على الرغم من الفقر والعوز والبعد؛ وعلى الرغم مما كان يقوم به كل منهم من أعمال أخرى كالرعي والزراعة ... إلخ، إلا أن الشمم والقمة كانت هدفهم. جيل عجيب... منهم القاضي والطيار والضابط والمعلم والطبيب ورجل الأعمال والفقيه ... إلخ.
كم كانت تلك الأيام يا أبا ياسر مليئة بالجهاد والكفاح وها أنت وجمع من زملائك حزتم على مطالع النجوم والمثال على هذه النجاحات هو امتلاك الأخ صالح وأبناؤه لشركات عدة على رأسها سوماك. رحم الله من سبقنا منهم وأمد في عمر من بقي في طاعته. رحم الله أم ياسر كم كنت أراها أنا وأخي علي الكردي في غدونا ورواحنا وهي آيبة من مزارعكم بعد (جناب هنزب) حاملة الكثير من الأعشاب وأعواد الحطب ورحم الله العم عثمان ومسفرة وحليمة ورحمة وبقية العائلة الذين عاملوني كأني صالح أو غرم الله (منسي).
أيام لا تنسى. أم طفولتي المتأخرة وبداية صباي، وأحسن الله إليك أن أثرت ذاكرتي ومشاعري. وعفا عنا جميعا.