د.عبد الرحمن الحبيب
واصلت الإدارة الأمريكية ضغطها على النظام الإيراني بإعلان الدفعة الثانية من العقوبات المتمثلة بتقييد تعاملات إيران مع الهيئات المالية الدولية، شاملة قطاعات المصارف والتأمين والنقل، وأهمها حظر الاتجار بالنفط الإيراني الذي أصلاً تراجع بنحو مليون برميل يومياً منذ مايو الماضي، مقلصاً إيرادات النظام الإيراني النفطية بملياري دولار.
وكانت أمريكا قد عدَّلت بعض الإجراءات لهذه العقوبات لأنها شعرت أن بعض منافسيها سيستفيد منها، بينما بعض حلفائها سيتضرر؛ لذا ذكرت واشنطن أنها -حالياً- لن تسعى لدى سويفت (النظام المركزي للحوالات المالية بين البنوك العالمية) لفصل البنوك الإيرانية كلياً عنه.
كما استثنت ثماني دول لمدة ستة أشهر مراعاة لها، ولكيلا تؤثر سلباً على إمدادات النفط العالمية وزعزعة الأسواق العالمية، خاصة أن لارتفاع سعر النفط تأثيراً سلبياً على الوضع في أمريكا نفسها.
ورغم هذا التعديل للعقوبات فإنه سيشكل ضربة موجعة لأركان النظام الإيراني وأزمة اقتصادية كبرى له، ستُكبل الحرس الثوري اقتصادياً، وتُحجِّم تمويل وكلائه بالمنطقة، وتقلص برامجه الصاروخية والنووية، فضلاً عن زيادة التصدع في جبهته الداخلية بين المتشددين ومن يطلق عليهم المعتدلين.
كذلك سيضطر النظام الإيراني لنوع من الانكفاء لحل مشاكله الداخلية، فكيف ستتعامل إيران مع هذه العقوبات؟
إيران لم تترك فرصة لحل توافقي بالتفاوض، فقبل أيام قال بومبيو وزير الخارجية الأمريكي: «لا نرى أي إشارات لاستعداد إيران للتفاوض»، بل على النقيض، بدلاً من أن يؤكد رموز النظام الإيراني على الانسجام مع النظام الدولي يتباهون أن لهم خبرة طويلة بالمراوغة وتجاوز العقوبات الدولية التي اعتادوا عليها؛ يقول أستاذ العلوم السياسية بجامعة طهران حسين رويوران لقناة DW (صوت ألمانيا) إن إيران «تعايشت مع هكذا عقوبات بالسابق واستطاعت تجاوزها»؛ فيما أكد الرئيس الإيراني حسن روحاني أن بلاده «ستلتف بفخر» على العقوبات، مؤكداً أن لدى إيران خبرة على مدار عقود في «الالتفاف» على العقوبات الدولية.
من طرق الالتفاف، إخفاء ناقلات النفط عن الرادارات مثلما قامت به في أكتوبر الماضي، عبر إطفاء أجهزة الإرسال في ناقلات النفط لتختفي عن الرادارات التي لا يمكن رصدها إلا بالأقمار الصناعية مما يصعب مهمة مراقبتها.
ومن طرق المراوغة الأخرى الحصول على جوازات دول أخرى لفتح حسابات في بنوك أجنبية وتسجيل شركات وهمية بالخارج، مثلما فعلوا مرات كثيرة سابقاً.
ولا تسمح الحكومة الإيرانية رسمياً لمواطنيها بحمل جواز سفر ثان، لكن مصدراً إيرانياً مطلعاً على عمليات شراء جوازات السفر الأجنبية، قال لرويترز «إن وزارة الاستخبارات الإيرانية أعطت الضوء الأخضر لبعض كبار الشخصيات بقطاع الأعمال للحصول على هذه الجوازات لتمرير المعاملات المالية (DW)».
هذه الأساليب ربما نفعت بالماضي إنما مع صرامة العقوبات الحالية ستكون محدودة التأثير؛ لذا فإن أهم ما تعول عليه إيران هو استثناء العقوبات الأمريكية لثماني دول (الصين، الهند، إيطاليا، اليونان، اليابان، كوريا الجنوبية، تايوان، وتركيا) تشكل غالبية المشترين للنفط الإيراني.
يقول رويوران: «عقدت إيران اتفاقات مع العديد من الدول فيما يتعلق بالنفط، ما أجبر أمريكا على إعطاء الإعفاءات لبعض الدول لكي تحفظ ماء وجهها»، لكن وكالة «روسيا اليوم» ذكرت أن «هذا الاستثناء المؤقت بمهلة ستة أشهر، يتيح لأمريكا خنق إيران بهدوء وصمت، واستعراضه بطريقة هوليودية متشفية تحمل بصمة ترامب الخاصة، لكن دون أن تتيح لإيران الهرب بوسيلة أو أخرى مما أعد لها، إذ إن هذا السيناريو منحها هامشاً يجعلها تتوهم أن حبل العقوبات لا يزال بعيداً».
وتعول إيران، أيضاً، على الاتحاد الأوروبي، خصوصاً فيما يتعلق بالعقوبات المصرفية والمالية، وكانت الدول الأوروبية قد أعلنت عن خطة خاصة لإنقاذ الاتفاق النووي الإيراني عبر إنشاء مكتب قناة مالية بديلاً عن «سويفت» لتجاوز العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران لتسهيل الدفع مقابل الصادرات الإيرانية، بحلول نوفمبر الحالي. لكن الدول الأوروبية ألمحت إلى عدم رغبتها باستضافة هذا المكتب، حسب تصريحات دبلوماسيين أوروبيين لصحيفة فاينانشال تايمز البريطانية؛ ولا يبدو أن هذا المكتب سيرى النور على المدى القريب.
وجاء بتقرير بي بي سي، أن «سبب عدم رغبة دول الاتحاد الأوروبي باستضافة مكتب القناة المالية الجديدة مع إيران، هو جدية واشنطن باتخاذ قرارات مقاطعة وردع، لأي محاولات سواء من دول أو شركات تتورط بخرق العقوبات المفروضة على إيران».
المحصلة أن الالتفاف على العقوبات سيخفف جزئياً الضغط على إيران، لكنه لن يؤثر على مسار العقوبات، فالتعويل على بيع النفط للدول المستثناة هو حل مؤقت، أما التعويل على المكتب الأوروبي للقناة المالية فهو بيع سمك في البحر.. آخر ما تبقى من خيارات هو «العيش إلى ما بعد ترامب»، حسب عنوان مقال الكاتب الروسي أندريه باكليتسكي، في «كوميرسانت»، حول الاستراتيجية الإيرانية القاضية بتدبر الأمور إلى حين رحيل ترامب، لكنه سيكون انتظاراً على جمر سخط السكان مع التدهور الحاد بمستويات المعيشة.. إنه انتظار البنزين قرب لهيب الاحتجاجات الداخلية.. فإيران أصلاً هزتها العقوبات الأمريكية قبل بداية الدفعة الأولى من العقوبات، فكيف ستكون الاهتزازات بعد الدفعة الثانية.. هذا ما سنراه!