عبد الرحمن بن محمد السدحان
«لم يكن أدبُ السِّير الذاتية زاداً لي ولا متاعاً، وما كنتُ أفكر ولو على شاطئ الحلم، إنني سأكتب يوماً نصاً يمكن أن يوصف بالسيرة الذاتية، وذلك لأسباب عدة، منها:
1-لم أكن بدْءاً مُسَلّمًا بقدرتي على خوض تلك التجربة القاسية.. والغوص في مجاهل الذاكرة وأسرارها بحثاً عن مادة تستحق التدوين!
2-أن (النَّبش) في رُفات الماضي ليس أمراً (محبباً) لدى بعض البشر وربما أكثرهم، وأنا أحدُهم، لأن في هذه الرفات (جرُوحاً) لم تندمل بعد، وأوجاعاً لم (يفصحْ) بها اللسانُ قط أو أوْزارًا لم (يَصفحْ) عنها الوجدان!!
«رغم ذلك كله، كان يلازمني شعورٌ داخلي بالتحدّي لنفسي، والدخول في لجة التدوين لبعض مواقفها: انتصاراً وانكساراً، ونجاحاً وفشلاً! ومن هذا الموقف وحده، تعلّمت درساً ثميناً، هو أن من أهم مُتَعِ الحياة أن يكون لصاحبها تحدّيات ترسم مسار المواجهة معها، فإن أصاب غايته فنعِمَّا هي، وإن أخطأ.. اتخذ من ذلك عبرة تضاف إلى رصيده التجريبي: شئوناً وشجوناً!
«وذات مساء من صيف عام 1425هـ شعرت برغبة عارمة في التصدّي تدويناً لبعض من أحاديث الأمس، بحُلوِها ومرِّها، وساعد على ذلك (حملةُ التحريض) من لدن بعض المحبين، مِمّن عاصروا جزءاً من إيقاعات تلك الذكريات، يتقدمهم صديقُ العمر (الراحل) معالي الدكتور غازي القصيبي، طيّب الله ثراه، الذي أغْرقتُ سمعَه ووجدانَه، ببعض تلك الأحاديث وآهاتِه وابتساماتِه!
«وقد بلغ إصرارُ طيّبِ الذكر والذكرى غازي على تدويني لسيرتي أو شيء منها كتابةً أن أقْسَم ذلك المساء، من صيف عام 1425هـ، لئنْ لم أبدأْ في تدوين مخزون الخاطر من ذكريات الأمس، فإنه سيقوم بذلك (نيابةً عني)!، لأنه كما قال لحظتئذٍ، قد سمع مني ما يفي بتنفيذ تلك المهمة. وما أصْدَقُهُ قولاً في ذلك! لأن الخالقَ سبحانه قد وهبه (ذاكرة) لا تُخِلّ بما تكنّه تسْريباً ولا نسياناً! ووجداناً لا يخْوُن صاحبَه إخفاقاً!
«غادرتُ مقرّه ذلك المساء عائداً إلى (صومعتي) في مقر إقامتي في جدة ونفسي تحدثني بأن (لحظة الصفر) قد حلَّت، ولا بد لي من الشروع في تدوين شيء من سيرتي، بدْءاً من ذلك المساء. وهكذا كان، ولمدة ثلاثة أشهر تقريباً، تمكّنتُ من إعداد (المسودة) الأولى لتكون مشروعاً لما يمكن أن يُسمَّى اصطلاحاً (سيرة ذاتية)، وقبل ذلك، كان لا بدّ لي أن أزفَّ نبأَ (ولادة المشروع) إلى المحرِّض الأوّل، أبي يارا غازي «رحمه الله»، والتمسْتُ منه أن يكتبَ (مقدمة) النص حال الانتهاءِ من إعدادِه، فرحّبَ بذلك والتزم!
«وقد أنجزتُ بفضل الله ما وعدتُ به سيّدَ القوافي غازي وأنجز هو وعدَه لي، وجاءت (مقدمتُه) بعد أيام تاجاً يزيّنُ جبينَ الجزء الأول من السيرة، التي أطلقت عليها هذا العنوان: (قطرات من سحائب الذكرى)، واشترك وحيُه الوجداني والشاعري معاً.. في اختيار ذلك العنوان!
«وبعد.. فليس أقْسَى على المرء من أن يتصَادم مع الخوف من الفشل، فيسَتجيبَ لوِسواسه الخنّاس، خوفاً من النقش على جدار الذكرى، ثم يُحجم هو عن منح نفسه متعةَ التجربة بالحديث مع الذات وعنها، و(النبش) في ركام الذكريات عما يستحقُّ الذكر، لأنَّ النفسَ (مقْبرةُ) العمر، إليها يلجُ كلُّ دقيق وجليل، فتسدل عليه ستار الصمت ربّما حتى حين وربما إلى الأبد!.