د. حمزة السالم
الإيمان بالخرافات غير محدود بشعب ولا دين ولا زمان أو مكان، إنما أينما توافرت بيئة من الانغلاق الفكري ورفض السماع للآخرين والعزلة الاختيارية أو الإجبارية، مع حدوث حالات توهم أو حالات تَصَادُف، صارت هذه البيئة مفرخًا لتأصيل الخرافات القديمة، وتوليد الجديد منها.
التقيت قديمًا بأمريكية - تحمل درجات تعليمية عليا من جامعات راقية - تُعالج بالأعشاب ومؤمنة بها إيمانًا عميقًا. وسبب إيمانها، إصابتها بفشل كبدي عجز الطب الحديث على علاجه أو معرفة أسابه (على حد روايتها). فوقعت صاحبتنا الجميلة صدفة على طب بديل يدعى «Raphaology Medicine» فتشافت به فشُفيتْ. فدرستْه أصبحت خبيرة فيه وحصلت على رخصة للعمل به، وعرضت عليَّ زيارتها في عيادتها. فذهبت لأرى، فأنا لا أرفض الأشياء بداية ما لم يكن بطلانها واضحًا ابتداًء. فوجدت أن منزلها هو عيادتها. والتشخيص يكون عن طريق لمس مناطق معينة في القدم. وإلى الآن فالأمور معقولة حتى وصلنا إلى أنها تضع قطعة قماش ملونة أمام عينك ثم تزعم بأن هناك استجابات في أعصاب القدم للألوان المختلفة، تستطيع من خلالها تحديد بعض أنواع الأمراض. فهضمت طرح بغصة، فلعل استجابة المخ للألوان تؤثر على أعصاب القدم. ثم جاء وقت تحديد الأعشاب المناسبة فإذا بها تجعلني أمسك بقوارير معلبة ومغلفة تغليفًا جيدًا ولكنها تحتوى على أنواع مختلفة من الأعشاب. ثم تزعم أن هناك توافقًا وتنافرًا بيني وبين مختلف أنواع الأعشاب عن طريق الذبذبات الخارجة من القوارير والناتجة عن تناقل جزئيات الأعشاب الإلكترونية. ثم بناء على توافقي مع الأعشاب وتنافري من بعضها يكون تشخيص العشب المناسب. والعجيب إيمانها القوي بذلك ووجود زبائن لها يأتونها، وتذهب لمن لا يستطيع الحركة. ومن نقاشي معها وجدتها مؤمنة بأساطير المؤامرات، ولذا فهي لا تسمع الأخبار مطلقًا. ووجدتها تؤمن بالروحانيات وبالقدر وأن كل ما يحدث هو بسبب، ولكنها لا تقف هنا بل تبني قراراتها على ذلك، كوضع الأحلام والرؤى والسحر والحسد عند بعضنا.
عندما كنت في غرة شبابي، تلحفت كيس النوم الميداني متمددًا أمام مقدمة سيارتي عند منصة تخريج كتائب الحرس الوطني المهجورة في خشم العان، وذلك استعدادًا للحاق بكتيبة المدفعية المنطلقة مع الفجر في مشروع رماية تدريبي، وكنت ضابطًا لتوجيه النيران فيها. وكان هناك أحاديث تتردد بأن المنصة مسكونة من الجن. والظاهر أن إخواننا لم يأبهوا بوجودي، فارتفعت أصواتهم بلغط لا أميزه فنهضت أطالبهم بالسكوت (أهاوشهم). وكنت، كلما اشتد حنقي وعجزت عن الاستغراق في النوم بسبب أصواتهم المرتفعة، نهضت وصرخت عليهم فيسكتون، فإذا عدت إلى النوم عادوا للغط والهرج. حتى آيست منهم وقررت الرحيل، لاعتقادي أنهم «يلعبون بي» فنهضت مغادرًا ،فإذا هم سكوت مع نهضتي. فاكتشفت حينها أن الهواء كان يمر بين فتحات لوحة السيارة التي كانت فوق رأسي ويصدر أصواتًا غريبة بسبب المنصة المهجورة، التي كانت السيارة تحتها، ومع استعدادي النفسي السابق، تخليت أن الجن تعبث بي. فعندما قمت بإغلاق الفتحات خرس «إخواننا الجن» للأبد ونمت قرير العين.
هذه قصة واقعية أنا صاحبها ولم يقصها أحد عليَّ، نقلتها بحذافيرها دون نقص أو زيادة. وغالبًا، لا يخلو أحدنا من قصة مشابهة، اللهم أن اختلاف نهايات القصص قد تكون مؤثرة في فكر صاحبها بقية حياته. فلو أني لم أكتشف الأمر لعشت معتقدًا بها مخبرًا بها أبنائي، كما أخبرني أبي وجدي وعمي وخالي بقصص مشابهة، وهكذا تتأصل الأساطير والخرافات في المجتمعات.