د. محمد عبدالله العوين
تميز الأستاذ محمد سلومة بخطه الجميل على السبورة، ولدي منه رسائل كتبها بخط يده أرسلها إلي من مصر بعد أن انتقلت إلى الجامعة وعاد بعد سنوات إلى بلده مصر؛ تفيض تلك الرسائل أناقة وبلاغة وسلاسة وجمالاً وحسن خط، وقد شرح لنا في المرحلة المتوسطة ألفية ابن مالك شرحاً مستفيضاً متكئاً على الكتاب المقرر؛ وهو «شرح ابن عقيل على ألفية بن مالك» ت 769هـ مع حاشيته الغنية بإعراب الشواهد على الألفية للمحقق محمد محيي الدين عبد الحميد، وكنت أحفظ أبيات الألفية منجمة على الدروس، ثم أحفظ الشواهد في الحاشية مع إعرابها، وربما بقيت الشواهد في الذاكرة دليلاً على القاعدة أكثر من بقاء الألفية؛ لأن الأولى إبداع لطيف والثانية نظم ثقيل.
ودرسنا النحو في المرحلة الثانوية الأستاذ النابه الحافظ المتقن إبراهيم الدوخي، وكان الكتاب المقرر «أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك» لجمال الدين بن هشام ت 761هـ وتميز بقدرته على تلخيص القاعدة وتبسيطها؛ مما يسر لنا استيعاب الخلافات بين المدارس النحوية.
ولي وقفة مع أولئك الذين يرمون الحفظ بالويل والثبور وعظائم الأمور وأنه عقبة كأداء أمام الفهم وسد منيع أمام الاستيعاب؛ فبعد تجربة علمية طويلة وجدت أن ما بقي معي هو ما حفظته؛ سواء في النحو أو العروض أو الفقه أو الشعر، وأن القراءة تتبخر مع الزمن ولا يعلق بالذاكرة منها إلا ما عاوده القارئ بالمراجعة أو بالحوار والمناقشة.
والعبرة بحسن الاختيار لما يقرره المنهج للحفظ، وأجد اليوم أن طلاب الجامعة يجدون أمامهم في مراحل مختلفة نصوصاً شعرية أو نثرية يطلب منهم بعض الأساتذة حفظها؛ وبخاصة قصائد لشعراء كبار؛ لكنني أجد أن الاختيار لم يكن لأجود شعرهم، أو لما هو جدير بالحفظ والتأمل والتحليل، لما يمثله من موقف أو رؤية أو جمال.
فما قيمة وصف شاعر لجبل؟ أو وصف بركة؟ وما إلى ذلك، بينما يغفل من قرر قصائد العاطفة الشفافة الجياشة للشعراء الغزلين، أو السيف أصدق أنباء من الكتب لأبي تمام، أو نونية ابن زيدون، وقل مثل ذلك في الاختيارات النثرية.
وعوداً على أساتذتي في المعهد العلمي طيب الله ذكرهم ومتعهم بالصحة والعافية وغفر لمن توفي؛ كان فيهم الشديد الصلف الذي لا يتسامح ولا يقبل تقصيراً؛ فمرة أخطأ أحد الطلاب خطأ يسيراً فتناوله الأستاذ من جيبه ثم دفعه بعنف مع باب الفصل المفتوح وأتبعه بأن «شاته» بقدمه فتدحرج في الممر منقلباً على وجهه عدة مرات.
ومنهم الحليم واسع الصدر المحاور المستمع إلى طلابه باهتمام، ومن ذلك أن أحد الطلاب لم يكن مقتنعاً أن الأرض كروية، وقال: كيف تكون كروية والمحيطات والبحار تلفها من كل جانب؛ إذا سينكب الماء من كل جهة! ضحك الأستاذ وضحكنا معه، وما زال السؤال معلقاً إلى اليوم: هل الأرض كروية أم مسطحة ؟!.. يتبع