د. إبراهيم بن محمد الشتوي
لو أن شاباً سئل عن المرأة التي يرغب في الزواج بها، لجاءت الصفات الجسدية في المقام الأول، فهو يريدها طويلة، أو يريدها نحيفة، أو سمراء، أو بيضاء، أو جميلة، وهو يقصد في صورتها، إلى غير ذلك من الصفات التي تفنن الشعراء بتعدادها، والوقوف عندها. وهي صفات جسدية في الغالب سواء كانت عند امرئ القيس والنابغة والأعشى أم كانت عند ابن أبي ربيعة والأحوص أم عند قيس وجميل وكثير، وتوبة، وأقلها ما جاء في مثل قول الأعشى:
ليست كمن يكره الجيران طلعتها
ولا تراها لسر الجار تختتل
ولا أريد أن أقول إن هذا يدل على أن الغريزة الجنسية تشكل الجزء الأكبر من وعي الرجل تجاه الجنس الآخر وقيمته، ولا أبحث في الأسباب التي شكلت هذا الوعي، وإنما سأنتقل إلى الضفة الأخرى حيث النظر في الصفات التي تريدها المرأة في الرجل، وتراها الصفات الجميلة أو صفات «فارس الأحلام»، ولا أقصد هنا بفارس الأحلام الزوج وإنما أقصد الصورة المثالية للرجل الذي ترغب أن ترتبط به.
يلخص علقمة «الفحل»، وهو فحل، في أبياته المشهورة، رغبة النساء في أمرين: الشباب، والمال. يقول:
فإن تسألوني بالنساء فإنني
خبير بأدواء النساء طبيب
إذا شاب رأس المرء أو قل ماله
فليس له من ودهن نصيب
هذه هي القضية بالنسبة للنساء، فإذا كان الرجال يرون النساء وسيلة لإثارة الغريزة، وقضاء الوطر، فإن النساء يرونهم كذلك، وطريقة لصلاح المعاش.
ولا يختلف في هذه الرؤية أبو تمام، وهو الشاعر العبقري، إذ يرى أن غاية النساء من الرجال هي الشباب، ويزيد أيضًا الحسن، الذي يحدده بأنه الصورة التي تبدو عليها المرأة، وكأن أبا تمام يجعل ذوقه (أي ذوق الرجل) في الجمال مقياساً يحدد به ذوق المرأة، فكأنه يجعل جمال المرأة هو الأصل، فهو المحبوب عند الرجال، وشبيهه من الرجال محبوب لدى النساء، أو أنه يظن أن المرأة تحب هذا النوع من الجمال، فيقول:
أحلى الرجال من النساء مواقعاً
ما كان أشبههم بهن خدوداً
وهو موقف لأبي تمام يتناسب مع رأي علقمة السابق، الساعي إلى الكشف عما تكنه المرأة في دخيلتها، وتتأبى على التصريح به، خاصة وأنها- المرأة- تمدح بالحياء والخفر، وعدم الإبانة عما تجده في نفسها إشارة إلى عدم أهميته بالنسبة لها، وكأن هؤلاء الشعراء يزعمون أنهم قد عرفوا المرأة حق المعرفة، وأن ما تظهر من عدم مبالاة لا يعدو القشرة الظاهرة، تغطي بها ما يعلمونه من رغائبها علماً كاملاً.
هذه الصورة الأحادية تجاه ذوق النساء في الرجال التي تجعله مرة محصوراً في الثراء والمال، وأخرى تجعله في الحسن المشابه لحسنهن، تناقضها حكاية مشهورة أوردتها كتب الأدب عن بنات ذي الأصبع العدواني الأربع حين كن يتحدثن عمن يرغبن به من الرجال، خاصة وأن أباهن الشاعر كان غيوراً كما يقال، فمنعهن من الزواج، ما يعني أن ما يقلنه جاء بعد تأمل وتمحيص، وطول تمني ومنع. تقول الحكاية إن ذا الأصبع العدواني جاء إلى بناته، وهن يتحدثن دون أن يشعرن به، فاستمع عليهن (أي تصنت)، فإذا قائلة منهن تقول: «لتقل كل واحدة منكن ما في نفسها، ولنصدق جميعا». وفي قولها هذا ما يدل على صحة ما ذهب إليه الشعراء السابقون من أن النساء لا يظهرن ما في قلوبهن، وأن ما يقلنه عادة لا يتطابق مع ما يكننه في أنفسهن، ولذا أخذ بعضهن العهد على بعض أن يكون ما يقلن هو الصحيح، ومع أن هذا القول قد يكون حيلة من الراوي يحاول أن يحسن بها الحكاية التي أوردها، ويجذب انتباه المتلقي، فإنها تؤكد المعنى السابق، خاصة أن حديثهن جاء عن طريق الإلغاز الشعري بذكر الصفات المحبوبة التي يرينها تكون الرجل المثال في خيالهن، وترضي أذواقهن فيهم، فكأنهن يتوسلن بوسيلة يتمكن من خلالها القول دون الحاجة إلى كسر ما يظهرن من حياء، وخفر وتمنع، ثم إن مقدرة المتلقيات وهن باقي الأخوات على إدراك اللغز، وفك طلاسم الصفات المقصودة يوحي بأنها صفات متعارف عليها في عالم النساء، وأنهم يتحدثن عنها في خلواتهن، وهي جزء من الخيارات المطروحة عند الحديث عن الرجال. سأتحدث عن الصفات في المقالة القادمة.