بعث لي أحد المعارف مقالا قديماً للكاتب الصحفي فهد عامر الأحمدي ،المقال كان بعنوان ،(كيفك يا ولد لطيفه)،تحدث فيه الكاتب عن التهميش الذي يلقاه المتميزون والمبدعون داخل نطاق أسرهم الصغيرة ،من الأعمام وأبنائهم ومن في حكمهم قربا وأقرب، من الأصدقاء والجيران والمعارف، في الوقت ذاته عرج الكاتب في المقال نفسه على بعض الشخصيات التي ما أن خرجت من محيطها الصغير ذاك ،حتى ربت وأثمرت منجزات إنسانية كبيرة وكثيرة غيرت العالم وأخذته وناسه إلى أحوال جديدة ومتعددة .
الغريب أن (صديقي المرسل ) وعلى طريقة الرأس المتفجر فى الصواريخ بعيدة المدى ،حمّل ذلك المقال عبارة أخيرة قائلا :- (أظن أن هذا حالك في مجتمعنا) ،ثم وضع علامة تعجب صارخة،وزاد على ذلك وجوه صفراء عليها غبرة مستغرقة في الضحك بكل ما أوتيت من شماته! .
ولأن من يتعاطى الكتابة أو الحضور الإعلامي قد يراه البعض متميزا وهم قلة ،إلا أن هناك من لا زال يراه (فوق البيعة) حتى و إن كان مبدعا خلاقا قادراً على صناعة فارق إيجابي لنفسه ومجتمعه
وإذا كان هناك من يحاول أن يتنقص من هؤلاء المبدعين أو يتجاهلهم إما لدواعي الجهل ذاته أو الحسد فذلك أمر معتاد وليس بجديد .
شخصيا أنظر للحالة من زاوية أكثر فرجة وأوسع فهمًا لهذا الموضوع وما ورائه من إشكالات وتعقيدات ولذلك فحضور المبدع وتميزه يحكمهما أشياء كثيرة وظروف متغيرة وظروب متعددة.
أول هذه الأمور هو
المبدع نفسه وفهمه لما يقوم به ومايقدم ،فالإبداع درجات ومحطات ،والنشر أو الشهرة لا تعنيان بالضرورة جودة في العمل الإبداعي المقدم، بل على العكس من ذلك فمع تردي الذائقة وتصدر الدهماء للمشهد يصبح الحضور حكرا على النشاز من البشر والأفكار .
ثانيا، أهل الدراية والعلم والخبرة في المجال ذاته.
فمثلًا إن أثنى على المبدع شخصٌ جاهلٌ بموهبته فهو في الحقيقة ذم له وقد يراه بعض المغالين تنقصاً، وإن أثنى عليه رجلٌ بسيط غير متخصص فهذا في النهاية لا يقدم ولا يؤخر في مستوى حضوره .
الرأي الجمعي سلبًا او إيجابًا يتحكم فيه أصحاب النفوذ في هذه المجتمعات الصغيره كالأسر والعُصبة والقبيلة، وهو في النهاية لا يزيد من حضور المبدع على سلم الإبداع ودرجاته الحقيقية.
الرأي الحقيقي يكمن عند المتخصصين المجايلين أو السابقين واللاحقين ، وهنا إن نُقد المبدع إيجابًا أو سلبًا فهو في النهاية مؤثر وحاضر تبعًا للعبارة الشهيرة : « أن تنتقد فأنت موجود».
وعندما يحاول أحد بجاهِه أو ماله أو نفوذه او أتباعه إن يلغيك أو يغيّبك فأنت وتبعًا لمقولة حجي جابر : «بعض الغياب حضور».
الحضور الحقيقي للمبدع يكمن في إنتاجه وقدرته على التأثير والتأصيل والديمومة في المجتمعات وأفرادها، أما الحضور من خلال الغث أو على طريقة ما يطلبه المشاهدون فذلك كثير ولكنه زبد لا يمكث في الأرض ،وإن طال أمده ووقر في العقول والقلوب فلا يزيله إلا مبدع يتهيأ لهذا المجتمع ويعيد إليه توازنه ويضعه على الطريق الصحيح.
أما صديقي الساخر وأمثاله -وهم كثر - فقد ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا كالمدافع تحت قلاع الرتابة والنقد اللاذع المشخصن، المبني على لحظة انتهازية، تذكرنا بمن يحاول أن يوقف تقدم قطار كبير يمخر عباب السهول والوديان ليصل إلى منتهاه ومآله الطبيعي ، والمعرفة وشطآنها الوارفة هي المآل هنا.
نعم يا (ياصديقي القريب) نحن وإياك نقطع نفس الطريق ونرى المشاهد ذاتها ،لكنك تتزود بالسخرية لتكون أداة تعبيرك، وغيرك يستثمر في بنك الحكمة الإنساني ،وشتان مابين سخرية وحكمة ،وشتان ما بين من يعقل ومن لا يعقل ،وبين من يعلم ومن لا يعلم .
** **
- علي المطوع