د. خيرية السقاف
يحدثنا الغيم حين يكون للوجهة الأقرب..
فالنفوس تقرب مما يطمئنها، يمنحها ويثريها، يزيدها ولا يسلبها..
النفوس في كل حالاتها، وبكل صفاتها تريد ما يلمُّ أجزاءها، ولا يجفو تفاصيلها..
الغيم حين يكون محمَّلا من المزن برويِّه، نبوءة بالودق، مبشراً بالسقيا..
يقرب من النفوس، يلامس شغافها، يتسلل لأركانها، ينتشر في فسحاتها،
يركن في زواياها..
يستلهم هسيس عروقها، ووميض مخيلتها، ونداء مشاعرها،
يكسوها حريره بالبهجة، يلفها بقطيفة نداه بحنوه، يقرب مسرة مفعمة بأحلامه..
هذه الوجهة الأقرب للغيم حين يقصد بمطره جفافها، ويبابها، وشح مواردها،
وفطامها من أحزانها، وإشراع نوافذ بريقها، وفتح أبواب ركضها،
ومد مضامير سباقها مع النسمة، والضحكة، والزفرة المريحة..
لكنه لا يفعل حين يكون للوِجْهة الأقصى!!..
فالنفوس تجفو قسوة الريح التي ترافقه، وسطوة سيله المتدفق بمائه، وعنفوان إمطاره، وشتات رياحه..
تهاب الغرق بوابله، والتردي في طمي جريانه، والضياع في متاهات اتجاهاته، والانقضاض بقوة حمولته، والموت في عنفوان كتل مائه، والاحتراق بصواعق ناموسه، والصمم برعده..
الآن، الغيم يتمادى في موسمه،
يلبد السماء بندفه، يوحي بالرخاء بمواكبه،
ينذر الأوراق الجافة، والرماد المتراكم، وعتمة الخشاش، وتصحر الأتربة، وغبار السطوح، ووحشة الزوايا..
كما يطمئن العَطِش، والمحترق، والجاف، والموات..
هو وحيٌ باللطف الإلهي، كما هو وحيٌ بالكشف عن الإنسان في غيابه!..
هو مفتاح، وبادرة، وكلام كثير.. كثير..
تهفو إليه النفوس بما تشهق من حرِّها..
وتهفو إليه بما تقرأ من سرِّه..
وهو يتمطى في الفضاء فوق رؤوسنا يقول كثيراً..كثيراً..
وليس كل الذي يقوله نسمعه، أو نعيه..
لكننا في حضور قطراته كالأطفال..
تماماً كالأطفال..
والأطفال أبرياء كثيراً!!..