د.محمد بن عبدالرحمن البشر
قصة سوتر والذهب، قصة شيقة، وتستحق الكتابة عنها في أكثر من مقال، لكن يمكن اختصارها بقدر المستطاع.
سوتر تاجر سويسري ولد عام 1803م، وعاش في غرب سويسرا، واسمه مرتبط دائماً باكتشاف الذهب في الجهة الغربية من الولايات المتحدة، في ولاية كاليفورنيا، وفي مدينة ساكرامنتو الحالية، وهي الآن مدينة جميلة هادئة.
وقد كان سوتر رجلاً منظماً، يدعو إلى الالتزام بالأدب والسلوك المهذب بين الأفراد، كما كان جاداً ويحرص على الالتزام بالعمل، وكما هي حال بعض التجار فكان لا يتردد بأخذ جزء من المخاطرة في بعض من نشاطاته التجارية، وقد أدت به إحدى تلك المخاطرات إلى تراكم الديون لدرجة لم يقدر معها على تسديدها، وقد أدى ذلك إلى الحكم عليه بالسجن، لكنه هرب إلى الولايات المتحدة الأمريكية خوفاً من ظلام السجن، ومطالبة الدائنين فحل بمدينة نيويورك، وسانت لويس، وسانتافي، لمدة قصيرة، توجه بعدها إلى كاليفورنيا عن طريق ولاية أوريغون، وفانكوفر، وهاواي، إلى أن حط رحاله في مدنية بريابونيا وهو الاسم القديم لمدينة سان فرانسيسكو الحالية، وكانت ولاية كاليفورنيا -آنذاك- تابعة للمكسيك، واختار وادياً في مدينة ساكرامنتو ليكون مقراً جديداً لبدء حلمه في إنشاء إمبراطورية إنتاجية وتجارية يصبح معها أكبر تاجر في العالم، كما كانت تحدثه به نفسه، وعندما اقتربت زوارقه من المنطقة التي اختارها في إحدى وديان ساكرامنتو، أطلقت تلك الزوارق النيران كتحية لأولئك الذين كانوا في استقباله حيث أرسلتهم قبل وصوله، وقد أفزع صوت تلك النيران الغزلان والأيل، وغيرها من الحيوانات والطيور، وأطلق اسم هليسيغا على تلك المنطقة، كما أصبح مكسيكياً ليسهل أمور تجارته.
بدأ سوتر نشاطه التجاري حاملاً معه قيمة الأخلاقية والعملية، وما لبث أن أنشأ مدينة أصبحت نموذجاً مصغراً لإمبراطوريته الحالمة، فقد أصبح في مدينة تلك ستين مبنى، ومخبزاً، ومدبغة، ومصنعاً للدباغة والقماش، والبطانيات، واثني عشر ألف من البقر، وأكثر من عشرة من آلاف الخزاف، إضافة إلى ألفي حصان وبغل، وكانت حقوله تنتج ما يزيد على أربعين ألف صاع من القمح، وعاش سعادة عارمة، فقد تحققت بداية حلمه الكبير، كما أن ذلك النجاح قد أنساه آلام الماضي، وملاحقة الدائنين في سوسيرا.
ذات يوم أدرك سوتر أنه في حاجة إلى مصنع لصناعة الأثاث، لكن المنطقة التي يسكنها لا يتوافر بها كمية كافية من الأشجار، فأوكل إلى كبير الميكانيكيين لديه أن يبحث عن منطقة أخرى، وفي عام 1848م جاء كبير الميكانيكيين إليه واسمه مارشال، وطلب رؤيته على انفراد وألح في ذلك، وبعد أن دخل في المكتب طلب إغلاق الباب، وألا يدخل عليهما أحداً، ثم دنا مارشال من سوتر، وأخرج من بنطاله قطعة قماش بيضاء، فنظر إليها سوتر، فوجد بها تبر الذهب على شكل شذرات بما يعادل أونصة ونصف، وقال مارشال «أعتقد أن هذا ذهب لكن العمال سخروا مني، ونعتوني بالأحمق».
بعد برهة من هول الصدمة، أخذ الحزن يسري إليه، فقد قفز إلى ذهنه ما سيترتب على هذا الاكتشاف الخطير، وعندما حل الليل، وساد الظلام، طرق ذهنه بشكل مفاجئ، أن أمراً سيئاً سيحدث، تشاؤم، وحزن واكتئاب، وأخذ يترقب بزوغ ضوء الشمس، فقد أدرك منذ البداية، ما سيؤول إليه الأمر، فهو التاجر الخبير.
انطلق سوتر في الصباح إلى مكان المصنع، وطلب من جميع العمال إبقاء الاكتشاف سراً، لمدة أربعة أسابيع، حتى ينتهي من طاحونة الدقيق التي قد بدأ ببنائها، لكن مع كل أسف لم يدُم السر طويلاً، فقد تكفل الخمر مع ما يرافقه من أمور بإفشاء السر، لكن ذلك السر لم يذهب بعيداً عن بعض أجزاء إمبراطوريته الصغيرة.
في يوم بائس لسوتر، زار أحد الجيران الموقع، فبعد أن علم، سار بالذهب إلى شوارع سان فرانسيسكو يحمل قارورة مليئة بتبر الذهب، وهو يصيح بأعلى صوته ذهب، ذهب، ذهب، من نهر أمريكانا، وما هي إلا ساعات حتى انطلق السكان بشتى أعمارهم ووظائفهم إلى ذلك المكان الحالم بجلب الذهب، وتسابق القوم بما فيهم الطلاب. هنا سرى داء البحث عن الذهب إلى عمال سوتر، فأخذوا يختفون ليجنوا من الذهب ما يستطيعون، ولم يبق سوى المرضى، وكبار السن، وبدأ القادمون من المدن الأخرى في بناء منازل بالقرب من النهر الساحر واستوطنوا هناك. لقد باءت خطط سوتر بالفشل بسبب اكتشاف الذهب في إمبراطوريته الصغيرة، فأصبح تحت رحمة الرعاع، كما يقول، ولم يكن هناك قانون للحماية وقد سرقت حتى طاحونة قمحه الجديدة. ذهب إلى واشنطن للمطالبة بحقوقه، وأمضى سنوات عمره الباقي بين المحاكم والمحامين، وأخيراً توفي في علم 1880م، وكان في السابعة والسبعين من العمر.