د. فوزية البكر
هل تتذكّرون تلك الخرائط الورقية التي اعتدنا أن نحفظها في سيارتنا ونقرأ من خلالها الطريق إلى كل مكان أو مدينة جديدة نسافر لها وها هي تختفي ومثلها وظائف المعقبين الذين أصابهم أبشر بمقتل أو هو تطبيق الوكالة الإلكترونية عن بعد أو هي سيارات الأجرة التي كفانا أوبر وكريم شر قذارتها وها هي سيارات اليوم تقود نفسها ذاتياً كما تساعدك أيضاً في ركن نفسها وتعمل حساسيتها الإلكترونية المفرطة على تقليل حجم أخطاء القيادة الذاتية بما يقلِّل مستوى التأمين وحجم الإصلاحات التي تحتاجها السيارة وكل ذلك سينعكس تدريجياً على نوع وحجم الوظائف التي سيحتاجها الإنسان خلال العشرين سنة القادمة ومع ذلك فما زلنا ندرس مفاهيم ومعارف لمهن تقليدية عفا عليها الزمن ولا يمكن أن يجد لها الخريج من معظم مؤسساتنا التعليمية عملاً.
في منتدى أسبار الدولي 2018 الذي دشِّن في الرابع من نوفمبر الحالي تحت عنوان: عصر المستقبل: السعودية غداً، أكد المشاركون على حتمية التغيّرات في ميادين التعليم والتدريب والتوظيف بدرجة تهدّد كل طرق عملنا الحالية وعاداتنا وقوانيننا الضابطة. فعلى سبيل المثال تقدم البنوك في العادة قروضاً للشركات حتى تتمكّن من الوقوف على أقدامها، لكن ماذا عن الشركات الإلكترونية الناشئة التي لا تملك قوائم مالية تقليدية ويتم تقدير قيمتها المالية افتراضياً مثل لينكد إن أو جوجل وواتس اب وفيس بوك وغيرها من الابتكارات التي يذهلنا بها شباب اليوم، إذ ماذا لو أنها ظهرت هنا وليس في السلكون فاي، إذ ربما عجزت عن الحصول على أية تمويلات بنكية تبعاً للتقاليد البنكية السائدة فماتت في منشئها كفكرة.
كل الدراسات تؤكّد على حتمية الانقراض التدريجي لملايين المهن في العالم ليظهر بالمقابل لها ملايين من المهن وخاصة في مجال التكنولوجيا المتقدِّمة ومهن التحكم في منتجات الذكاء الاصطناعي مثل الربوتات. الطريف أن الدراسات تشير إلى أن ما سيبقى من مهن تقليدية هي تلك المهن ذات العلاقة بالنفس والسلوك البشري مثل الأطباء والمعالجين النفسيين والسلوكيين ودارسي وسائل الرفع من الذكاء الاجتماعي الذي سيكون في مواقع مهمة مستقبلاً نظراً لما تحتاجه بيئات الأعمال الجديدة من تكاتف وتعاون وتقدير للعمل الجماعي لا الفردي، إذ إن من أهم مهارات القرن العشرين كما أكدت عليها محاضرة (مدرسة المستقبل) التي قدمها أ.د. عبدالله الجغيمان هي مهارات أربع وهي:
- إنتاج الأفكار (بما يتطلب البحث عن المواهب وتنميتها).
- حل المشكلات (وابتكار حلول جماعية للمشكلات التقنية لتوليد المزيد من الأفكار).
- وهذا سيحتاج بالضرورة للمهارة الثالثة وهي القدرة على التواصل.
- وهو ما سيتطلب بالضرورة المهارة الرابعة الأكثر طلباً في القرن الواحد والعشرين وهي القدرة على العمل ضمن فريق. فهل رأيتم (عدا شذرات متناثرة فردية وغير مخططة) أي من إستراتيجياتنا التدريسية أو التقويمية في أي من مؤسساتنا التعليمية تؤكد على أي من هذه المهارات؟
40 % ممن يعانون من البطالة لدينا هم من خريجي الجامعات في التخصصات الشرعية والإنسانية لكن ترتفع البطالة وخاصة بين صفوف النساء في المناطق الصغيرة والنائية حتى بين التخصصات العلمية التربوية مثل خريجات الكيمياء والرياضيات ... إلخ واللاتي لا أمل لهن يوماً في إعادة التأهيل والتدريب الذي يقتصر في الغالب على المدن الكبرى ويساهم ضعف البنية التحتية بضعف احتمالات استفادتهن من التدريب الإلكتروني المقدم من بعض الجهات.
لا مناص لنا من إعادة تأهيل أنظمتنا التعليمية للتوافق مع متطلبات (مدرسة المستقبل) بما يوفر توافقاً علمياً وتقنياً ومهنياً لأبنائنا مع واقعهم المتغيِّر وهو ما يتطلب عملاً جاداً لتنقية التعليم من تخصصات (التعليب) المنتشرة بين ثنايا جامعاتنا وهذا يتطلب أن يمتلك صانعو القرار الشجاعة للإغلاق التدريجي لكثير من الأقسام النظرية فيها وإعادة تأهيل الخرجين من قبل الموارد البشرية بما يسمح لهم بحياة شريفة متوازنة بعيداً عن فاقة البطالة والحاجة إلى الغير.
حفظ كرامة البشر هو في احترام إنسانيتهم وتوفير تعليم يؤهلهم لعالم متغيّر وهو ما سيساعد على ازدهار بلادنا واستقرارها باستقرار اقتصادها واستثمار ثرواتها البشرية المهدرة.
نحن نستخدم خرائط قديمة لطرق ومدن جديدة كما ذكر د. الجغيمان في محاضرته في منتدى أسبار الدولي، فمن يقرع الجرس ويطلب طي الخرائط القديمة وإعادة بناء شوارع المدن الجديدة داخل أذهان طلابنا حتى يجدوا طريقهم إلى عالم القرن الواحد والعشرين؟