د. خيرية السقاف
تعلِّمنا الأزمات وتمضي, أن الصديق ذو مصلحة, ودونها لا صديق..
وأن الحليف إن لم يكن نداً فإن قوته رمح في الخفاء, وضعفه كمينٌ على أية حال..
وأن لا حقيقة غير ذاتك, ولا عضيد غير أهلك, ولا مركب سوى الذي تصنعه يداك..
فإن غشَّك الحليف فانبذه, وإن غدر بك الصديق فاقطعه, وإن تأخر عنك الأهل فحتماً قادمون!!..
لكن إن خانتك يدك اقطعها, وإن ارتد إليك سهمك فاستبدله, وإن ضلت سفينتك عن بوصلتك فاصنع غيرها, وأبحر..
لا يضيق بحر براكبيه, ولا تضل ذات عن حقيقتها, ولا تنأى بك نفسك عن موقعها..
ولقد علَّمتنا الأزمات أن نصنع مواقعنا, ونشيد أدوارنا, ونركب الموج بسفينتنا, ونقودها بعزيمتنا, ونموِّنها بزاد قلوبنا, وعقولنا..
لا حاجة لنا لمن يستزيد منا ويمنعنا, ويقف خلفنا ويطعننا, ويشاركنا الركب ويغدر بنا..
فهذا عدوٌ قبل العدو الصريح, والعدو خائن لا يُرتجى, كما الرغيف العفن بين الأرغفة, أو الذخيرة الفاسدة في جراب السلاح, كلاهما يخذلان,
أحدهما يخذل الجوع, والآخر يخذل النجاة!!..
ولقد علمتنا الأزمات أن الجهات الأصلية ليست أربعاً!..
وأن الزوايا لا تنحصر عند نقاط أركانها, فلا ننحصر, ولا نقف!..
فالبوصلة تدور كما عقربي الساعة, والزمن لا يتأخر عن وقته, فكل لحظة تأتي لا تلتفت للتي مضت, وكل حركة تمضي لا تنتظر ما سيأتي..
وكل النقاط منطلقات للمساحات, والمسافات, وكل زاوية تنفرج حين العزائم أن يكون الامتداد هدفاً للانطلاق, ونحن لا نقف, نسير, تتسع بنا المسافات, وتكبر لنا الخطوات, ولا نقف..
فالوقت محمل بعبوءة الإرادة, مليء بعزيمة الأعضاد, كفيل بمعرفة الذات, موقوف لنجاحها, مسير بإرادتها!!
أجل نعرف بأن الأزمات زادٌ لمن فاته الدرس, ومنادٍ للسادر في الترف, ومحرضٌ لشغف المجد, وباعث لهمم الذات..
ولقد تعلّمنا من أزمات تمر بنا الكثير, بينما في الوقت نفسه, أمطنا السر عن وطنٍ يشد بعضه بعضا, كل ظهر فيه صدر للآخر, وكل صدر فيه درع للجميع..
زوايانا منفرجة وخطانا تسير, وسفينتنا لكل الاتجاهات تعبر بحارها, وبكل قوة تقيم عتادها, وبالله من قبل ومن بعد تأمن على نجاتها, سلمها وسلامها, وصدقها وأمانها..
من باب البيت الصعير إلى سور الوطن الكبير, من شهقة الحياة لزفرة الموت,
من الجنين في محضن الولاء, للمُوهَنةِ عظامُه في انحناءته وفاءً..
وأن قلوبنا النابضة مأوى لكل الأنفاس في الوطن,
وأن دروعنا المشرعة وِجاء لكل نخلة تطعمنا عذوقها,
ولكل مورد تروينا قطراته,
ولكل ذرة تراب تمسُّها أقدامنا..
فالوطن غاية, ومقصد, وروح..
أما الأزمة فهي حكاية عابرة, في جملة من سطور درس نقرأها, ونطويها بكل فقراتها,
ولا نقف كثيراً عندها, حيث ننطلق لأبعاد ما نطمح إليه, نحو غايات ما نعمل له, بحصاد ما تعلمناه منها!!..