د. محمد عبدالله الخازم
درجت بعض الكليات الطبية في حفلات التخرج التي تنظمها لطلابها على تلاوة ما يعرف بالقسم الطبي، فما هو تاريخ هذا القسم؟ وهل يؤثر في ممارسة الطبيب المهنية؟ يعود القسم الطبي [هذا الموضوع سبق طرحه من قبلي] إلى ما يعرف بقسم أيبوقراط الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، ورغم التسمية؛ فإن المصادر تشير إلى أنه ظهر بعد وفاته بما لا يقل عن مائة عام، وربما أكثر من ذلك بكثير، ولكنه نسب إلى ايبوقراط كما نُسبت أشياء كثيرة إلى مدرسة ايبوقراط، وعزا بعضهم أصل القسم إلى فيثاغورس. اللافت للانتباه في الخلفية التاريخية لهذا القسم أنه يمثل استجابة دينية، إذ يعتقد أنه كان نتيجة صراع بين الإغريق والمسيحية، فهو لم يكن مجرد قسم على الالتزام بأصول المهنة وتعاليمها والمحافظة على أخلاقياتها كما نعهده اليوم؛ بل كان تحدياً لبعض المعتقدات الإغريقية في ذلك الوقت، ومما يميز ذلك القسم هو الولاء للمعلم إلى الدرجة التي يفرض فيها على تلميذه مساعدته عندما تتعسَّر حالته المادية، كما أنه يعطي القوة للطبيب حتى أنه يتضمن ما يشير إلى الالتزام بأسرار المهنة الطبية وعدم إشاعتها للعامة من خارج المجتمع المتخصص وهذا الاعتقاد بالتحديد يميز مدرسة فيثاغورس، وظل يستخدم حتى وقت قريب إلى درجة أن هناك مدرسة ترى من الأهمية عدم كتابة اسم الدواء أو تفاصيله على الدواء الممنوح للمريض حتى لا يظن من يطلع عليه أنه موصوف لعلة مرضية تتشابه مع حالته فيستخدمه. بالطبع يتعارض ذلك مع التوجه الحديث الذي يطالب بتثقيف المريض وإطلاعه على التفاصيل المتعلقة بمرضه وعلاجه..!
ومن الملاحظات الغريبة أيضاً في قسم الهيبوقراطي الأصلي هو تحريم إجراء العمليات الجراحية من قبل الطبيب، ربما لأنها تسبب التلوث بالدم، وهو ما كان يخالف بعض المعتقدات الدينية، والقسم لا يمنع العمليات؛ ولكن يتركها لآخرين متمرسين في إجرائها لا لأطباء مدرسة فيثاغورس. وفي العصر الحديث ما زالت مدارس كثيرة تبني على قسم فيثاغورس، هذا من ناحية جعل المريض محور العمل الطبي حيث يُقسِم الطبيب على عمل ما في وسعه لخدمة المريض، وقد تبنَّت الجمعية الأمريكية الطبية - ومثلها البريطانية عام 1847م ـ كودًا أخلاقيًّا طبيًّا جديدًا في شكله؛ لكنه يبنى على القسم القديم وإن أضيفت إليه فقرات تتعلق بمسؤوليات الطبيب تجاه المجتمع، وهو ما لم يكن موجوداً في القسم القديم، وقد تبنَّت تطوير هذا الكود جماعات من الأورثودوكس الذين نقحوه من الاعتقادات الإغريقية، بعد أن كان يتضمن القسم بالآلهة الإغريقية أبولو واخليوس وغيرهم، وهو ما استبدلته الديانات الأخرى لاحقاً حسب معتقداتها.
وفي عام 1948م أصدرت منظمة الصحة العالمية بعد الحرب العالمية الثانية بيان جنيف لأخلاقيات الممارسة الطبية، وقد بُني على قسم فيثاغورس/ ايبوقراط مع تنقيته من المرجعية الدينية الإغريقية، ومنذ ذلك الحين والقسم في لغته وشكله الجديد هو مرجعية قسم الأطباء في العرف الطبي العالمي، إذ نجد بعض الكليات الطبية العالمية ما زالت تفرضه على طلابها عند التخرج، وهناك جامعة واحدة في نيوورك ما زالت تستخدم القسم الايبوقراطي القديم (حتى عام 1997م).
يتبع