د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
تتفاعل قضية جمال خاشقجي حتى اليوم ولو بوتيرة أقل، وقد تستمر لبعض الوقت قبل أن يطويها النسيان، لكن بعض آثارها ستبقى لوقت أطول لأنه تم تضخيمها والتلاعب بها بشكل غير مسبوق إعلاميًا وسياسياً. وما زالت كثير من الدوائر الإعلامية تحاول تحليل الأساليب التي تم من خلالها التلاعب بهذه القضية وتدويلها، فقد تزامنت قضية خاشقجي مع قضية أخرى ربما أهم وهي اختطاف الصين رئيس شرطة الأنتربول «مينق هونقويل» واختفائه دونما أن يتطرق لها إعلام التهويل. حدثان متزامنان أحدهما أخذ بعداً دولياً، والآخر اختفى كشهاب سقط من السماء.
ما حصل لخاشقجي أمر يؤسف له، لكنه واقعيًا جريمة تتكرر بشكل شبه دوري في كافة أنحاء العالم وعلى وجه الخصوص في دول كتركيا التي هي طرف رئيس في القضية، والتي قضى فيها حزب التنمية والعدالة على ما تبقى من حرية إعلامية، وحول إعلامها لإعلام حزبي رسمي مهيأ للعب الدور الاستخباراتي المنظم في تهويل قضية خاشقجي. فليس هناك أدنى شك بأن الحشد الإعلامي للقضية مرتب مسبقًا، وأن أطرافاً كثيرة للأسف لديها علم متوقع مسبق بها، وعوضًا عن تنبيه خاشقجي أو تأمين حراسة له، جعلوه يواجه مصيره ليستغلوا ذلك لأهداف سياسية بشكل غير إنساني وغير مسبوقٍ إعلامياً وسياسيًا.
وقد حللت جهات إعلامية كثيرة منها «مجموعة الدراسات الأمنية»، جهة استشارية دولية في مجال الإعلام، ما حدث إعلاميًا في قضية خاشقجي وخلصوا إلى أنه أمر كان متفق عليه بين ثلاث جهات رئيسة: الإعلام التركي، الإعلام القطري ممثلاً في الجزيرة، والإعلام اليساري المعادي للرئيس ترمب في أمريكا. واتبعت هذه الجهات بشكل متناغم أسلوباً إعلامياً روسياً يعتمد الضخ الضخم والمتواصل للأخبار المفبركة التي تشد المتلقي بشكل يشل قدرته على التفكير أو التمحيص بحيث لو تغيرت الأخبار أو اكتشف زيفها لاحقًا يبقى تأثيرها بالقوة ذاتها. وصدرت جميع الأخبار أولاً عن صحف ومحطات فضائية تركية ونسبت لشخصيات «موثوقة مجهولة» في جهاز الاستخبارات التركي أو الحكومة التركية ورددتها تلقائيًا وبسرعة بعض وكالات الأنباء كاليوناتيد برس والصحف الأمريكية كواشنطن بوست، أو نيويورك تايمز نسبة لهذه المصادر.
وصور جمال خاشقجي كصحفي بريء مسالم همه الصحافة وحقوق الإنسان فقط ولا ماضٍ له في النشاط السياسي. ونسجت لأسابيع سيناريوهات خيالية متتابعة لتبشيع عملية قتله دونما إبراز أية أدلة عليها: تحقيق مطول وأصوات تعذيب، استجلاب مناشير عظام وأدوات تقطيع الخ.. لتهويل بشاعة الحدث، واستمر الحديث عن وجود أشرطة تسجيل مؤكدة في مكان ما لدى السلطات التركية، أشرطة لم تظهر مطلقًا، وأخبار تؤكد أن الجثة مقطعة وأنها دفنت في الغابة أو مكان آخر مع مطالبة مستمرة بإظهارها!! جميعها أخبار مفبركة هدفها استعطاف المشاهد وشده وتشويه الطرف المستهدف. ولاستكمال الصورة ربط الأمر كله بعملية زواج محتملة من شخصية مشبوهة لم تبارح موقع القنصلية السعودية طيلة استمرار القصف الإعلامي.
ويكشف الموقع أن خاشقجي لم يكن صحفيًا بريئًا أو معارضًا مسالماً كما رددوا حتى ولو كتب بعض المقالات في صفحات الرأي في بعض الصحف الأمريكية، وأنه قدم لتركيا لترتيب مجموعات عمل تستهدف السعودية ودول أخرى في المنطقة بحكم ماضية الاستخباراتي وخبرته في تمويل المجموعات الإسلامية في الربيع العربي، وأن له ارتباطات معروفة بجماعات الإخوان المسلمين، ومؤخرًا مع أجهزة معينة في قطر وتركيا. ويذكر أيضًا أنه عزم على الاستقرار في تركيا لهذه الأهداف حيث اشترى شقة فاخرة في حي راقٍ، وفتح ثلاثة حسابات بنكية!! ويشكك الموقع في كون خاشقجي ذهب للقنصلية للحصول على ورقة طلاق فالأمر من التفاهة بما لا يستحق العناء. كل هذا تجاهلته وسائل الإعلام التي هيجت العالم بأسره في هذه القضية.
للعملية أطراف كثيرة يرجح أنها كانت على علم مسبق بها، وأنها ربما أسهمت وشجعت عليها، وأن الثمن الإعلامي والسياسي المطلوب يتجاوز خاشقجي بكثير ولذا تم تداخل الرئاسة التركية مباشرة وباستمرار في القضية. وكذلك رفض أردوغان المحاولات الأمريكية للتهدئة، وسعيه بإصرار لتدويلها. المطلوب في القضية برمتها ليس الاحتجاج على ما حصل لخاشقجي بل إعاقة الدور السعودي الذي بدأ يثبت نفسه سياسيًا واقتصاديًا في المنطقة بقيادة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان. وربما يكون له علاقة أيضًا بالسياسات السعودية الجديدة المتعددة الأطراف التي لا ترى تعارضًا بين تحالفها التاريخي مع أمريكا والغرب وبين إقامة علاقات قوية ومتينة مع الصين وروسيا. أمر لم يعجب بعض الدوائر الغربية. أما الإعلام اليساري الأمريكي، الذي هو في حرب طاحنة مع الرئيس دونالد ترمب، فقد دخل بكل ثقله في جوقة التضخيم والتشويه للتطاول على ولي العهد السعودي كحليف مقرب من الرئيس ترمب. وفي الختام لا بد من التذكير مرة أخرى بأن الإعلام والقوة الناعمة قد تكون سلاحًا أقوى وأمضى من القوة العسكرية والاقتصادية.