إن الحديث عن حياة الناس في الماضي من المواضيع الشيقة التي يتوقف المرء حين يتأملها وقادنا للحديث عنها مقابلة مع العم عبدالله بن سهلان حين سألناه عن تجربته بداية ورود المركبات للمنطقة، فحدثنا عن حياة الناس في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، بادرته بأسئلة وقد استهل ما قال: إن الأحفاد حينما نطلعهم على ما كنا نعانيه من قسوة الحياة وشظف العيش فإنهم لا يصدقوننا فهم لا يدركون ماذا كان يكتنف بلادنا من فقر ومجاعات قبل هذه النعم ولله الحمد، عندما بدأنا لقاءنا معه بدأ بالألبسة والزينة في العُرْضِيّات فيقول إن لكل وقت وكل زمان ما يناسبه من لباس وكان ميسور الحال هو من يملك ثوباً واحداً للمناسبات ولا يلبسه في كل وقت وإنما في أيام الجُمَعْ والأعياد والاحتفالات فقط، ومن اللباس لديهم: الجنابي، والقدامى فلا يمكن أن يتحرك الرجل في العُرْضِيّات إلا مسلحاً وأقل ذلك أن يلبس سكيناً أو عصا أو مشعاب فلا يمشي الرجل مسربلاً أبداً ولا يترك سلاحه إلا وقت النوم.
أما الألبسة الدائمة في حياتهم العامة في المراعي وعند مزارعهم فهي الفريقه ونحن نسميها حَوَذْ، والفريقه حُبْكَه مثل الإحرام الهنداسة، والذراع متر أو متر ونصف المتر، وثيابهم وألبستهم تلك مصنوعة من قماش كان يورد للمنطقة صومالي الصنع يسمى البفت والمبروم، وألبستهم النظيفة وأسلحتهم تلك يجلبونها معهم حتى عند مزارعهم فتجده متمنطق بجنبيته وفأسه (العطيف) على كتفه عندما يحل الخطر استعداداً لأي طارئ ليهب لنجدة بني قومه عندما تغطرف المغطرفة.
ومن الأسلحة التي كانوا يلبسونها في بادئ الأمر بندق العصملي وهي ذات طلقة واحدة فقط، بعدها جاء بندق أبو ركبه ثم بندق أبو فتيل ويضعون الرصاصة مع البارود، ثم ورّدت إلى المنطقة (عن طريق تاجر السلاح الشهير حينها الشيخ ابن مرزوق الزبيدي من قرما في المضيلف) قلت ورد عدد من البنادق الشهيرة حينها أولها أبو (مِجْلِز) ثم جاء بعده (المحدّش) ثم (المخمّس).
أما لباس الرأس عندهم فالغترة التي يسمونها الدسمال أو العمامة، والكوفية أو الطاقية، وكانت تلك العمائم يندر من يلبسها في بادئ الأمر فسائر المجتمع حاسرو الرؤوس يطيلون شعورهم ولممهم، بعد ذلك سافر إنسان العُرْضِيّات للحجاز فلبس الغترة وجلب التجار لأسواقنا غُتَرْ وثياب وخيوط للحياكة ذات ألوان متعددة منها الأحمر والأخضر والأصفر اسمها (قبرص)، وبلد الصنع هو دولة قبرص، وعن غطاء الرأس هذا كان هناك نوع من القماش يورد للمنطقة يقصونه بسكين على أشكال مثلثة يرتدونه غتراً وطريقة لبسهم لها تلف على الرأس والكوفية إن وجدت وبشكل دائري حتى تصبح كالعمة عند العرب.
وحين أكمل حديثه عن الزِيّ الكامل للرجل ومنها الاحذية علق بالقول إن أهل ذاك الزمان لم يكونوا منتعلين وإنما هم حفاة، أما الأحذية فلم يكن يلبسها إلا قلة من أعيان البلد، وإن وجدت فهي مصنوعة محلياً من جلود الماشية.
أما بالنسبة للباس والزينة لدى المرأة في العُرْضِيّات فإن من لباسها ما يسمى (المِدْرَعَهْ)، وهي تستر المقدمة والخلف وطريقة لبسها تدخل الأيادي بها ويلبس من تحتها ثوب أبيض أو ملون أو مصنف أو عرّاجه، أما لباس الرأس عند المرأة.
فتلبس ما يسمى القناع وهو الشيلة فتلبس من فوقه رداء ويسمونه عندهم القطّاعة وهي عبارة عن نصف متر من القماش تلفه المرأة على شعرها وعلى جسمها لكي لا يبان ولا يرى منه شيء فتلبس من فوقه المصنف، ومن أنواع الحلي عند المرأة شيء يسمونه (البريم) ويلبس من تحت الثوب، وتلبس أيضاً القلائد في العنق وتلبس الخُتَّمْ والفُتَخْ في أصابع اليد وأشياء يسمونها (لَوَآيَا) تلبس في أصابع القدم ومن الحليّ أيضاً ما يسمى (الوضاحة) وهي مصنوعة من الفضة وتشبه (المعضد) اليوم، وطريقة لبسها تدخلها المرأة في يدها من فوق المرفق.
ومن الحليّ أيضاً عند نساء العُرْضِيّات في الماضي الخرصان وتعلق في آذانهن وحينذاك يصنعها الصاغة من العملة والقروش والريالات السعودية وهي عبارة عن عملة معدنية يشغلها الصائغ ويكيفها بثقبها فتعلقها المرأة في أذنها.
وقد نحا الحديث مع العم عبدالله بن سهلان للحالة الاقتصادية المتواضعة للمنطقة في تلك العهود فتحدث عن شح المال وأنواع الحبوب وبعض مستلزمات المنزل فيقول السكر والشاي لم يكن موجوداً ولم نسمع بهما إلا في وقت قريب، أما الحبوب وخصوصاً في قنونا ببلاد بني بحير في الخمسينيات والستينيات الهجرية فكانت بوفرة لكن الريال مفقود وليس له وجود، فالإنسان حين يخطر للأسواق لا يهبط ومعه شيئاً من المال وإنما جلب من الأغنام وبعض الماشية للبيع أو حبوب يبيعها أو يقايض بها وأنواعها تلك، الدُقسة والذرة وسعر المكيالين منها بريال واحد إن وجد، وإن نزل الخاطر للسوق وكان يملك مبلغاً من 3 - 5 ريالات فإن بمقدوره أن يشتري كامل مئونة منزله ويعود وقد بقي لديه بعضاً من المال.
وأضاف العم عبدالله أن الألبسة في العُرْضِيّات تختلف قليلاً عن لبس أهل الخبت من الساحل والقنفذة.
وعندما سألته عن محور الزراعة وعادة الزراعة في العُرْضِيّات قال: لو أتينا للحديث عن اليد العاملة لم يكن هناك أبداً أيدٍ عاملة في الماضي من خارج العُرْضِيّات إطلاقاً ولكن هناك ما يسمونه (العَطَوِي) أو الخبير الذي يخابر في البلاد والأرض الزراعية والخبير و(الوجيب) هذا هو الذي يقوم بحماية المحصول من الطير ويسمونه (مِتْوَجِّبْ) في البلاد وله حال وله شأن، وكان للخبراء نظام معروف لديهم له شروط واتفاق مع صاحب المزرعة قبل أن يبدأ عمله تكفل له حقه، إما أن يحصل على أجره باليوم أو بالشهر أو عند حصاد الثمار وتسمى حصة الخبير هذا (الوجبة).
وعند توضيح أقسام وأنواع الأراضي الزراعية في العُرْضِيّات فهي تنقسم إلى قسمين: أرض مسقوي وأرض عثّري، أما الأرض المسقوي فهي التي لها بئر والري يتم منه، أو من الجداول المائية التي يسمونها (الغيل) كما هو الحاصل في قنونا ببني بحير وهذا النوع من المزارع يفرق حتى حساب الزكاة لثمارها وزكاتها أكثر وخصوصاً إن كانت تروى بماء الغيل، أما الأراضي والمزارع العثّري فهي التي ليس لها بئر وإنما تتوقف السقيا والري بها عند هطول الأمطار ولها عقائم عبارة عن مجاري مائية تفتح وتمتد من جهة الأودية لكي تحصل على حصتها عند جريان السيول.
وحدود المزارع في العُرْضِيّات التي تسقى بالغيل من الغبراء في أعلى قنونا وحتى منطقة يقال لها (الحازمين)، وكل صاحب أرض يعلم حصة مزرعته من الماء ومقدار ساعات السُّقيا بالتمام، ويسمونها وجبات، الوجبة الكاملة مقدارها الزمني 24 ساعة، ونصف الوجبة 12 ساعة وربع الوجبة 6 ساعات على حسب المساحة بالفدان، أما من يستعمل الأبقار والثيران والمقرنة والسحب فهؤلاء أصحاب المزارع العثّري التي تنتظر ماء السماء.
أما مكاييل تلك الثمار التي عادة ما تكون الحبوب إما الدقسة أو الذرة أو الحمراء أو الدخن والدخن معروف أنه خريفي ويأتي منه الصيفي ويحمون الدخن من الطير وصوت الحامي حين يرد الطير عن مزرعته (حا حا حا) وهناك نوع من الحبوب يسمونه (المعجباني) وهو من الحبوب التي كانت تزرع قديماً في زمن المجاعات ونوع آخر يسمونه (المقتصرة) وهو الحب الأبيض، أما حبوب الدقسة الحمراء سالفة الذكر فكانت بوفرة في بني بحير ويقال إنها توجد بكثرة في السودان، ولزراعة الدُقسة الحمراء طريقة معينة بعد بذرها وزراعتها الأولية حين تنبت وتكبر لكن دون أن تثمر، والطريقة على النحو التالي:
1- في البداية يتركون الأرض مبرك.
2- والمبرك عبارة عن حفرة في الأرض بمقدار 40 سنتمتراً.
3- ثم ينتف هذا الغرس من الجذور ويربط تربيطاً.
4- ثم يبدأون فيبغرون الأرض بالماء.
5- ثم يقومون بحراثة الأرض المبللة بالماء.
6- ثم في صبيحة اليوم التالي يوكل هذا الأمر إلى نساء خبيرات في هذا العمل.
7- ويرمون لهم ما يسمى المبرك أو المربط هذا ويلفونه ضفائر كل واحدة على حده، ويؤخذ من تلك الضفائر بمقدار اثنتين أو ثلاث ويضعنه النسوة تحت أرجلهن ويطأنه بأقدامهن ويقمن بغرسه من طرف المزرعة للزبير وطرفها الآخر بشكل فردي ثم يسقى بالماء، ويعمل له (قِصَاَبْ) وهي عبارة عن أحواض كبيرة عرض كل واحد منها خمسة أمتار وهي مربعة الشكل.
(يتبع)
** **
عبد الهادي بن مجنّي -
bnmgni@hotmail.com