م. بدر بن ناصر الحمدان
لدي طقوس تبدو غريبة بعض الشيء أمارسها حين أتجوّل في أواسط المدن العريقة، فأنا أعشق البحث عن «طبيعة الأماكن» بحقيقتها التي شكّلت تركيبة المدينة خلال منذ بداية نموها إلى أن باتت جزءًا من جسد الحياة التي عاشها الناس وشيدوها وفقًا لاحتياجاتهم ومتطلباتهم ونمط علاقاتهم وأسلوب تعايشهم مع محيطهم العمراني، بعد التعرف على هذه الأماكن ابدأ في خلق سيناريوهات تخيلية للأحداث التي مرت بها وكأني أرى أولئك الأشخاص الذين عمروها وقطنوا بها، اشعر بأني أسمع أصواتهم، وصدى حَدْوَات خيولهم، وحتى أصوت أجراس كنائسهم.
في أحد الأيام كنت مع زميل في رحلة عمل إلى مدينة «فلورانسا» وخرجنا في المساء لتناول العشاء، واقترحت عليه أن نذهب مشياً على الأقدام لوسط المدينة القديمة ونبحث عن أقدم محل للبيتزا، كان وما زال لدي هوس كبير بمحلات البيتزا العريقة التي تضع على لوحتها عبارة «منذ عام... إلخ»، أي منذ تاريخ طويل ليبرهن مالكها بأنه يمتلك القدر الكافي من الخبرة والتجربة والمهارة التي تؤهله للظفر بثقة اختيارك له، بعد أن قطعنا مسافات طويلة بين سرادق المدينة وجدنا أقدم محل للبيتزا متهالكًا ومختبئًا في زاوية مظلمة بنهاية ممر ضيق خلف اسطبل صغير ومهجور، هذا المحل لا يعمل سوى في عطلة نهاية الأسبوع وتديره امرأة عجوز اسمها «راشيل» وحفيدها.
بالنظر من خلف بابه الخارجي، يظهر أن هذا المطعم لا تتجاوز مساحته 9 أمتار، ولا يوجد به سوى كرسيين ومنضدة، يلفت نظرك تلك اللوحة السريالية المعلقة على جداره لفيضان نهر «أرنو» في عام 1966م، وصورة أخرى يبدو أنها لعائلة السيدة «راشيل» التي حافظت على تقاليد هذا المطعم والذي يمثل بذاته أرشيفًا وطنيًّا ومكتبة وثائقية لتاريخ فلورانسا وذاكرة حقيقية لحقبة من الزمن مرت بها تلك المدينة. من سوء الحظ لم نتمكن من شرف تناول تلك البيتزا العريقة لأن المطعم كان مغلقًا وفي طريقه إلى التخلي عن عرش البيتزا والتحول إلى متحف صغير، هذا المحل لم يستطع الصمود وتنازل عن كل تلك السنوات التي مرت، ثمة حياة تلاشت خلف ذلك المكان.
هل تساءلتم يومًا لِمَ نحن في كثير من الأحيان نشعر بالاكتئاب والحزن والمزاج السيء؟ ولِمَ لم نعد نرى ذلك الآخر ونتعايش معه؟ ولماذا انكفأنا على أنفسنا وأغلقنا أبواب منازلنا؟ ولأي سبب صرنا نتحين الفرصة للسفر ومغادرة مدننا للبحث عن مجال نفسي ومعنوي أكثر إيجابية؟ كل ذلك لأننا غادرنا طبيعة مدننا، وهاجرنا إلى الضواحي، بحثاً عن العيش مع طبقة النبلاء، وغادرنا مطعم البيتزا، وتركنا السيدة «راشيل» تصارع من أجل البقاء، ليس في فلورانسا فقط بل في كل مدننا.
لقد بتنا نعيش في مدن «مصطنعة» خُططت ضد طبيعة تفاعل الإنسان مع المكان، لم تمنحنا هذه المدن فرصة بنائها وفق احتياجاتنا وبمقاييسنا الإنسانية المتعارف عليها وبأسلوب تراكمي متتابع ومتكامل، بل هي أشبه بصندوق مكعبات وضعنا فيه للعيش قسرًا بمعزل عن الآخرين، وانتهى بنا المطاف للعودة مرة أخرى لأواسط تلك المدن للبحث عن ذواتنا وطبيعتنا وربما لا نجدها، أخشى أنها ذهبت مع السيدة «راشيل» ولن تعود.