د.عبدالله بن موسى الطاير
مقتل جمال خاشقجي شكَّل أزمة على عدة صعد، فالحادثة مروِّعة ولا يبررها عاقل، وبكلمات الأمير محمد بن سلمان فإن مقتل خاشقجي «بشع ومؤلم جدًا للسعودية والعالم». كلمات سموه - حفظه الله - تأتي في سياق الاعتراف بما حدث وشجبه في ذات الوقت. السلوك السعودي في هذه الأزمة يقدِّم منظومة متجانسة في إدارة الأزمة من الإقرار إلى التوافق والاستجابة المرحلية لمطالب تركيا والرأي العام، إلى المشاركة في لجنة تحقيق مشتركة، وبذلك نقلت عبء الأزمة عن كاهل السياسي إلى ذمة العدلي، وتفاعلت مع الجمهورية التركية بكل جدية وآخر ذلك التعاون كان زيارة النائب العام السعودي لمسرح الجريمة بمشاركة نظيره التركي، وستكون المرحلة الختامية في تعامل السعودية الموضوعي والمنهجي مع هذه الأزمة هي المحاكمات، والاصطفاف إلى جانب الحق، ودعمه بتطبيق أحكامه بحزم وقسوة رادعة تتناسب مع بشاعة الجرم الذي ارتكبه المتهمون. الإجراء الأخير سوف يجنب الكيان السعودي أية تداعيات سياسية يتمناها خصومه ويسعون إليها من خلال التسريبات وتدويل القضية سياسياً.
وفقاً للإجراءات المتخذة حققت خلية إدارة الأزمة نجاحات، ولم تسلم من الإخفاقات أيضاً؛ فعلى صعيد «الحشد» ينبغي الاعتراف بأن الإعلام المحلي أبلى بلاءً حسناً في حشد الرأي العام السعودي والخليجي المساند للرواية السعودية، ولعبت شبكات التواصل الاجتماعي وبخاصة تويتر دوراً مهماً في توحيد الصف ودحر المرتزقة الذين حاولوا تأليب السعوديين وتشكيكهم في موقف دولتهم. وثاني النجاحات تمثَّل في التعاون الدولي من خلال وقوف دول عربية ومسلمة مع المملكة بنشر بيانات مؤيِّدة ومحذِّرة من المضي بهذه الحادثة إلى أبعد من نطاقها الجرمي، كما أن الاعتدال في استخدام البيانات الصادرة عن المملكة برهن على أنها لا تريد التصعيد، ولم تلمح إلى قدرتها في اتخاذ تدابير حازمة في حال تعرضها للخطر. وفيما عدا تصريح واحد صدر في الأيام الأولى وتم لا حقاً توضيحه فإن التعامل السعودي ما زال إيجابياً وهو الأمر الذي أسهم في ترشيد ردود فعل البيت الأبيض؛ فرغم حدة ضغوط الإعلام والرأي العام الأمريكي والعالمي على الرئيس ترمب لا يزال هو وإدارته يؤكدون على أهمية المملكة العربية السعودية الروحية والاقتصادية ويثمِّنون العلاقات الإستراتيجية الأمريكية السعودية. وأخيراً فقد نجح فريق الأزمة حتى الآن في المحافظة على وضوح الهدف في المعالجة بتحديد دقيق لا يخرجه عن إطاره الحقوقي رغم كل المؤثِّرات التي تحاول أن تنحرف بالخطاب السعودي إلى منزلقات سياسية يدفع باتجاهها الإعلام المعادي الذي يستحث التدويل والعقوبات، بل وحتى التدخل في السيادة السعودية. وعلى العكس من هذه النجاحات في تطبيق مبادئ الأزمة فإن فريق إدارتها افتقد إلى المباغتة وروح المبادرة، ولم يتمكَّن من السيطرة الكاملة على الأحداث المصاحبة، كما أنه افتقد إلى المواجهة السريعة وتقديم معلومات جديدة خارج سياق التسريبات التركية. ومع ذلك فإننا مطالبون بالنظر بحساسية أكثر إلى طبيعة هذه الجريمة ومكان تنفيذها، وغرابتها على الثقافة السياسة والأمنية السعودية. ناهيك عن شذوذها الصارخ عن المبادئ الإسلامية والثوابت التي تقوم عليها هذه البلاد. إدارة الأزمة باحترافية مع الأخذ بعين الاعتبار تطوراتها وتداعياتها سواء من حيث القدرة على «الصدام والدحر والمواجهة السريعة والعنيفة والاستيعاب والاستنزاف»، يتطلب أخذ الوقت بعين الاعتبار في «إزالة الآثار والانطباعات السيئة» التي سوف تخلفها هذه الأزمة على مدى سنات لاحقة.
إدارة ما بعد مقتل خاشقجي -رحمه الله- ليس استثناءً من إدارة أية أزمة سابقة. وسوف يأخذ وقته ومداه ثم تطويه السنون. أما التحشيد المتواصل من قبل المرتزقة أشخاصاً ومؤسساتٍ فإن ذلك لا يعدو أن يكون بسطاً للأمنيات وتنفيساً عن ما تخفي قلوبهم من أمراض خبيثة ضد هذه البلاد. وهي محاولات لدفع المملكة للتصرّف خلاف ما تقتضيه حقيقة الأزمة. وأول ما يحلمون به هو تفكيك الحلف السعودي الأمريكي من جانب، وتمزيق التضامن الإسلامي من جانب آخر لإضعاف القيادة السعودية للعالم الإسلامي، وهو ما يجب أن تضعه خلية إدارة الأزمة نصب عينيها. وإذا جدَّ الجد فإن المملكة قادرة على الدفاع عن سيادتها ومصالحها بكفاءة عالية، وليسمع مني المرتزقة في قناة الجزيرة ومن يدور في فلكها بأن المملكة إذا تلقت صفعة من أي كان فسيكون ردها مزلزلاً، وليس بإدارة خدها الآخر.