د.محمد بن عبد العزيز الفيصل
برزت الشعوبية في نهاية القرن الأول الهجري، لتسجل ذروتها في منتصف القرن الثاني، الذي بلغ فيه المسلمون سنام مجدهم، حيث بسطت الدولة العباسية نفوذها حتى بلغت أقاصي الأرض؛ فثارت ثائرة الخونة والمارقين فأخذوا يحاربونها واصطفوا مع أعدائها الذين لم تعد تربطهم بقومياتهم التي انحدروا منها أي صلة سوى السواد الذي أحاط قلوبهم قبل أن يطوق أبصارهم!
عندما كنت طالباً على مقاعد الدراسة في مرحلة البكالوريوس، اعتقدت لوهلة عندما تحدث أستاذ مادة تاريخ الأدب عن الشُّعُوبِيّة، وعن تأثيرها على الدولة والمجتمع، أن هذه الظاهرة قد اندثرت وتلاشت، وطَوت صفحاتها الغابرة أعوام متعاقبة حوت في أرحامها أحداثاً متباينة تجاوزها الأجل بحلوها ومرها! إلا أنني فوجئت بعودتها ولكن بِزِيِّ (براغماتي)، هو الأكثر أثراً وتأثيراً على بعض عينات أفراد المجتمع الذين قد تغيب عنهم النوايا الشريرة التي تحيط بهؤلاء الذين يدّعون بأنهم أحمالٌ وديعة وهم ليسوا كذلك، فهم ضباع كاسرة لا تقتات إلا على الشر، تهدف إلى زعزعة أمن واستقرار الوطن، ونشر الفساد والفوضى الخلاّقة كما يسميها أسيادهم.
قد أجد تبريراً منطقياً لشعوبية بشار بن برد وأبي نواس والفردوسي وغيرهم، ممن تعود أعراقهم إلى هذه قوميات متعددة، ولكنني لا أفهم ما هي الحسابات التي جعلت بعض السعوديين تبعاً لتلك الدول الشريرة، ومما يتجلى لي أن التحول الفكري الذي اجتاح الشعوبية هو ما جعلها تتنكر لأساسها القومي لتخلق لها قاعدة جديدة تعتمد المذهبية الدينية التي تتصل بالفرس والروم (إيران وتركيا)، فأنتجت القرامطة والنصيرية وغيرهما ممن اعتنقوا مذاهب فاسدة والسبب في ذلك تبعيتهما لهاتين القوميتين، وكلنا نعرف البدع والخرافات والضلالات والشركيات التي أدخلتها الدولة العثمانية الفاسدة، والصفوية البائدة على الدين الإسلامي، وها نحن اليوم نواجه فصولاً جديدة لهذه الشعوبية تتمثل في تنظيم جماعة الإخوان المسلمين الإرهابي وما تفرع عنه من جماعات ضالة! فما هو عذر هؤلاء الذين امتطتهم هذه التنظيمات القومية التي ترتدي ثياب التدين؟!
يقف ذهني عاجزاً عن التفكير، أو حتى وصف تلك العينات الشاذة التي تحاول عبثاً أن تلبس ثياب الصلاح وحُلَّة الإصلاح التي يفصلها عنهم مفازات عتيدة، فلم يعرف التاريخ على مر عصوره أن العربي يمكن أن يحمل صَدره هذا الكم الكبير من الغِلِّ الذي يشاطره هؤلاء أعداء وطننا الغالي.
تتقهقر جُل معاني المروءة والوفاء أمام هذا السيل الجارف من الخيانة والدناءة التي يحملها هؤلاء تجاه وطنهم الذي رعاهم وتبناهم منذ ولادتهم مروراً بمراحل تعليمهم التي شَجّعتهم الدولة على الولوج في خضمها، فهيأت لهم السبل في ذلك داخلياً وخارجياً، طمعاً في أن يكونوا شخوصاً بارزة في ميادين العلم والمعرفة ليفاخر بهم الوطن كافة أصقاع المعمورة.
لك أن تتخيل أخي القارئ أن يُقدّم من تبناه هذا الوطن منذ نعومة أظفاره وحتى اشتداد عظمه على خيانته وطعنه في الخاصرة! طعنةً هي أشد وطئاً من تلك الطعنة المارقة التي وجهها الفاجر أبو لؤلؤة الفيروزي إلى سيدنا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وهو ساجد يصلي في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- انتقاماً للدولة الساسانية التي سقطت على يد عمر، بل إن الأمر لا يقف عند هذا الحد، بل تجاوزه بكثير فأحدهم لا يتورع أن يعلن صراحةً دعمه المطلق والصريح لأعداء هذا الوطن الذي رعاه بكلِّ حنو وإخلاص كما يرعى الأب طفله الصغير.
ما أشبه الليلة بالبارحة، وما أقرب اليوم من الأمس عندما انقسم شعوبيو الدولة العباسية إلى قسمين: الأول مع الفرس، والثاني: مع الروم، وهذه القوميات التي تمثلها اليوم إيران وتركيا، وما أشبه حال أولئك الخونة الذين لفظهم التاريخ بمن ينعقون اليوم ضد هذا الوطن ويطالبون بمثاليات غريبة هي غير موجودة في البلدان التي تتعالى أصواتهم من أراضيها.
هي رسالة من دون تحية ولا تقدير إلى هؤلاء الحمقى والمغفلين، الذين ستلفظهم هذه البلدان الضالة بعد أن تستعملهم للنيل من دينهم وأوطانهم، وستدور عليهم الدوائر وسيلفظهم التاريخ كما لفظ أسلافهم من قبل، فعودوا إلى رشدكم واستقرؤا التاريخ فإن فيه من الحكمة والعِبر ما يغنيكم عن استشراف ذلك المستقبل المظلم الذي سيوقعكم فيه أعداء الدين والوطن، فالتاريخ لن يرحمكم!