د.عبد الرحمن الحبيب
قبل سنتين أطلق زيد مقطع فيديو له مؤثّراً وجذاباً في يوتيوب، فنقله آخرون بمنصات أخرى كواتساب وانتشر بين الجماهير حتى تلقفته كبرى محطات التلفزة، وصار حديث المجالس في مجتمعه؛ فظن أن مواضيعه هي أهم قضايا المجتمع والعالم، وظل بتلك الوتيرة الجذابة.. لكن بريقه خفت شيئاً فشيئا.. بعد سنتين صار يلاحق أصدقاءه وزملاءه لمتابعة ما يطرحه، بعدما طواه النسيان.. كان مؤثِّراً وصار منسياً.. مرحباً بك في الإعلام الرقمي!
منذ بضع سنوات بدأ يظهر على المشهد الإعلامي الرقمي نوع جديد من النجوم أطلق عليهم «المؤثِّرون»، لأنهم ينالون عدد مشاهدات على شبكات الإنترنت المتعددة القنوات يفوق أية وسيلة إعلامية أخرى، وأصبحوا محط اهتمام الجمهور في مجالات نشاطهم الإعلامي. فعلى سبيل المثال عدد المشاهدين في موقع يوتيوب أعلى من أكبر شركات البث التلفزيوني؛ وقد انتبهت محطات التلفزيون الرئيسية لأهمية المؤثّرين وصارت تحاول دمجهم فيما يُسمى بتلفزيون الواقع (تقرير نادي دبي للصحافة، 2017).
المؤثِّرون يقسمهم تقرير دبي إلى نموذجين: هواة ومشاهير. الهواة هم نجوم جدد على الساحة يتميزون بإنتاج محتوى في تخصص معين يركز على موضوع محدد ويقومون بتحديث متكرر للمحتوى الذي ينتجونه، ويتميزون بنشاط كبير في النشر. أما المشاهير فهم أولئك المعروفون سابقاً من فنانين ورياضيين ودعاة وناشطين وكُتَّاب ... إلخ، الذين استفادوا من وسائل الإعلام الاجتماعي الجديد ويدخلون في شتى المواضيع لتعزيز وجودهم السابق على الساحة..
الهواة ليس بالضرورة أنهم غير متخصصين، بل الغالب أنهم متخصصون (صحة، طبخ، أغذية، طقس، تجميل، أزياء، رياضة، كوميديا..)، إنما أطلق عليهم هواة كمستجدين على الساحة الإعلامية. ونجد أمثلة ذلك لدينا: د. خالد النمر، د. فهد الخضيري في الصحة؛ د. خالد الزعاق في الطقس؛ د. عيد اليحيى في التاريخ المحلي. لكن كليهما الهواة والمشاهير يتشابه طرحهما بالشكل وإن كانا يختلفان بالمضمون. الشكل، غالباً، مرئي من مقاطع فيديو قصيرة سهلة الفهم لا تحتاج لتفكير، تُعرض بطرق مثيرة للجذب (ساخرة، غريبة، صادمة، مبتكرة..)، أو نص قصير يحمل نفس سمات المحتوى المرئي. أما أهم مواصفات المضمون الجديد للهواة فهي تناولها مواضيع محلية مؤثِّرة في عمق مجتمعاتها المحلية.
أي النجوم أكثر تأثيراً؟ تتداخل عدة عوامل في تحديد ذلك، ولا يوجد مقياس منهجي واضح سوى عدد المتابعين أو المشاهدات وقاعدة المشتركين، وهي تعد حالياً مؤشرات مقبولة نسبياً، لكنها تتبدل بسرعة وتتأثر بعدة عوامل متداخلة، فمثلاً مجرد توقف أحد المؤثِّرين لمدة قصيرة سرعان ما يُنسى، فالأمر يتطلب جهداً مضنياً للمحافظة على إرضاء المعجبين ونشر كثيف للهاث وراء جذب الجمهور، فهناك وفرة فائضة في عدد المؤثِّرين الذين يتزايدون يوماً بعد يوم.. كما أن بعض المؤثِّرين يعيد تكرار محتواه وقد يملّ الجمهور منه..
إلى أين يتجه الجمهور أكثر؟ أكبر جاذب للجماهير هو درجة التفاعل المباشر مع المؤثِّرين من إعجابات أو تعليقات حادة أو مشاركات. هنا دخل عامل أساسي، وهو أنّ كثيراً من الناس أصبح يقيّم جودة العمل بعدد المشاهدات والتعليقات والإعجابات، وليس بجدارة العمل نفسه. صار المؤثِّرون يجاملون معجبيهم بمزيد من حدة الطرح لجذبهم..
يبدو أن الهواة صاروا الخيار المفضَّل للجمهور، فرغم أنه لوحظ قبل عدة سنوات أن جمهور المشاهير أوسع من جمهور الهواة لكن ذلك شهد تبدلاً في السنتين الأخيرتين. وحتى قبل عدة سنوات ورغم أن جمهور المشاهير أوسع من جمهور الهواة، لاحظ المراقبون أن الجمهور يثق بالهواة أكثر لأنهم يركِّزون على مواضيع معينة وأصحاب تخصص فيها أو قريباً منها بينما المشاهير على خلاف ذلك يدخلون في كافة مناحي الحياة.
وقد وجد المراقبون أنّ الحملات التسويقية للإعلان التجاري التي تقوم على شعبية المشاهير تشهد تفاعلاً أقل وعائداً منخفضاً (تقرير نادي دبي). هذا يجعل المعلِن التجاري يحتار بين خيارين: القاعدة الجماهيرية الأوسع (المشاهير غير المتخصصين)، أم التفاعل الأكبر (الهواة المتخصصون)؟
ما هو مستقبل المؤثِّرين؟ من الصعب الحكم على حاضرهم فكيف الحكم على مستقبلهم، فالواقع يتطور بسرعة مذهلة يصعب رصد حركته؛ إنما يلاحظ أن هؤلاء المؤثِّرين بين خيارين، إما الاندماج مع وسائل الإعلام التقليدية، أو البقاء مستقلين باتصالهم المباشر بالجمهور في الوسائل الجديدة. فإن ذهبوا للأولى فقد يفقدون بريقهم العفوي وطبيعة إنتاجهم من ناحية الوتيرة والشكل والمدة التي تختلف عنها في وسائل الإعلام التقليدية؛ وإن ظلوا على حالهم فهم يفتقرون للتسهيلات اللازمة لإنتاج المحتوى بمستوى احترافي، إذ سرعان ما يتشبّع الناس ويملون من الإثارة تلو الإثارة ذات المصداقية الضعيفة والاحترافية المتواضعة من الناحية الإخراجية..
الآن يقوم المؤثِّرون بإنتاج مقاطع الفيديو القصيرة التي لا تبث في قنوات التلفزة التقليدية، وتوزيعها على المنصات الرقمية مستقطبة مشاهدة أعلى من أكبر شبكات التلفزة التي تلهث للحاق بهذه المقاطع بدمجها مع برامجها واستقطاب هؤلاء المؤثِّرين. وإن كان من المبكر الحكم على ظاهرة «المؤثِّرين» نظراً لحداثتها، إلا أن أهم ما يلاحظ سرعة ذبول نجومية «المؤثِّر»؛ فكم من نجوم الإنترنت الذين لمعوا فجأة قبل بضع سنوات ثم خفت بريقهم أو طواهم النسيان..