د. إبراهيم بن محمد الشتوي
يبدو أن المزاح والظرف لا يختلفان كثيراً فيما اطلعت عليه في الدراسات الأدبية، وكذلك في المعجم الوسيط، بيد أنني يحلو لي أن أفرّق بينهما بناء على أن الظرف أعم من المزاح، ثم إنني أميل إلى إخراج المزاح من أحاديث أولئك القوم الذين يتخصصون بإضحاك الناس، سواء كانوا من السراة والأعيان أم من العامة والسوقة، الذين يعدون في الندماء وفي آلة الأنس واللهو.
المزاح عندي هو ما يقال على سبيل الهزل في موقف جد، وفي مجلس جاد، ويقصد به تخفيف ما في الموقف الجاد من شدة قد تصل إلى حد التأزم، وكأنه يوحي من طرف خفي إلى تنازل أحد الطرفين المتنازعين عن موقفه، ورغبته في الجنوح إلى السلام، وتقديم اعتذار بصورة غير مباشرة.. فهو محاولة إلى النفاذ إلى داخل الطرف الآخر، ولمس الجانب الخفي من شخصيته حيث القدرة على جمع المتناقضات، والوقوف على المفارقة الفكرية التي تنطوي عليها الدعابة في مقام المزاح؛ ما يجعل الشخصية الأخرى تقبل الاعتذار بيسر وسماحة بمجرد وقوفها على المفارقة في هذا الكلام بوصفه نوعاً من الاستملاح للقول، واستجابة لدواعي تأثره في النفوس.
أو هو محاولة للبحث عما يقرب بين النفوس، وتلتقي فيه خارج الإطار الصارم الجاد الذي تأخذ نفسها به، وكأنه الباب الخلفي الذي يقرب الدخول إلى عمق الدار عوضاً عن المرور بالبوابات الكبيرة، والممرات الطويلة، إذ تجد نفسك في القلب حيث صفاء النفس وشفافية الإنسان.
وليست الأخبار المروية في هذا النوع من الظرف - وهو المزاح - كثيرة؛ فغالب الأخبار المروية هي لمن تخصص في إضحاك الناس، وصار حديثهم كله يندرج في مدارج السخرية والإضحاك والهزل، كما أني لم أجد كتاباً خصها بالجمع كما هي بعض أخبار الظرف والظرفاء، وأخبار العيارين والمجانين؛ ما يجعل جمعها يحتاج إلى جهد قائم بذاته.
من ذلك ما يروى أن رجلاً تنبأ في زمن المأمون، فجيء به إليه في المجلس ليسمع منه دعواه، فحين حضر بين يدي المأمون، وعزم المأمون على الحديث، انشغل ببعض ما ينشغل به الملوك، فقال لمن حوله: خذوه إلى بيوتكم حتى أفرغ له. وبعد أيام ثلاثة، وكان في مجلس أنسه مع بعض الخاصة، تذكره وسأل عنه، فقيل إنه موجود، فأمرهم بإحضاره، فلما مثل بين يديه، قال له المأمون: ما بعث الله من نبي إلا وله آية، فما آيتك؟ قال الرجل: آيتي أنني أعلم ما في نفسك؟ قال المأمون: وما في نفسي؟ قال: في نفسك أنني -الرجل- كذاب. فضحك المأمون؛ لأنه أدرك المفارقة بين قوله: «أعلم ما في نفسك»، وهي شبيهة بمعجزات الأنبياء الذين يفلقون الماء من الصخر، أو يحيون الموتى، وبين ما يعلمه في نفس المأمون؛ لأن ما ذكره عما في نفس المأمون لا يتطلب معجزة حتى يدركه، وإنما هو ظن غلب عليه مما رأى من فعل المأمون، واستقر بنفسه هو عن نفسه، فجاء وصف نفسه بالكذب نوعاً من الاعتذار غير المباشر، وهو ما أدركه المأمون ووافق هوى في نفسه؛ فضحك ضحكة تنم عن إدراكه ما وراء هذه المعجزة من رغبة في التنصل عن الدعوى التي ادعاها بجعلها من اكتشاف المأمون نفسه الذي لم تنطلِ عليه هذه الأكاذيب؛ ما جعل المأمون يسأله مباشرة بعد ذلك عن حاجته، وكأنه يلتمس له عذراً في هذه الدعوى، وهي الرغبة في الوصول إلى الخليفة، وطلب حاجة بعينها.
الصورة الأخرى التي يظهر فيها المزاح هي أن يكون الحديث حديث جد فيخلطه المتحدث بنوع من المزاح الذي لا يغفل عما ينطوي عليه الكلام من خطورة في وجهه الجاد، وهي نوع من التعريض الذي يوصل فيه المتحدث الرسالة، ويمكنه من التنصل من مسؤوليته القانونية. ويلجأ إليها الناس عادة عندما لا يكون لديهم البرهان القاطع على ما يقولون.. فهو ضرب من الجد في ثوب الهزل.
من ذلك ما روي عن أبي العيناء أنه اتهم موسى بن عبد الملك باغتيال نجاح بن سلمة تعريضاً في مجلس المتوكل، وحين بلغ موسى ذلك عتب على الوزير ابن خاقان أنه دس أبا العيناء إلى المتوكل ليوقع به عنده، وكان أبو العيناء لا يحب موسى وذكره بسوء عند المتوكل مرة أخرى، فأمره المتوكل أن يعتذر إليه، ففعل أبو العيناء ذلك، وتصالح مع موسى، فدعاه موسى إلى بيته، فقال له أبو العيناء مازحاً: أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس؟ فقال: موسى ما أرانا إلا كما كنا.
كان اعتذار أبي العيناء استجابة لطلب المتوكل، ولم يكن عن طيب خاطر، فلما دعاه موسى إلى منزله مازحه بهذه المزحة - كما يقال - الثقيلة، وهي تقوم على أنه يذكره بالتهمة السابقة على سبيل المزاح، وكأنه يعيد الكرة إليها، ولكن عن طريق السخرية والإضحاك على وجه أن يسخر بالتهمة نفسها، ويضحك منها، ولكنه في الحقيقة يلمح من خلال هذا الاختيار إلى التذكير بالفعل السابق؛ وهو ما جعل موسى يغضب، ويتجاهل ما فيها من مزاح إلى جانبها الجاد؛ فهو لا يرغب في أن يتحدث في هذا الموضوع حتى ولو على سبيل المزاح.
هذا الحضور للمزاح في معرض الجد يمكنه من الدخول مرة في شدته فيكسر حدته معتمداً على قدرته في تغيير مزاج المتلقي، فيبدل موقفه، ومرة أخرى يستعير لباس الجد ليجعلها وسيلة للتسرية والإضحاك دون أن يغفل عما تحمله من جد يجعله الرسالة الثانية التي لا تقل خطورة وأهمية عن الأولى لمن يعي ذلك.