عبد الله الماجد
قصة «الثعبان» في مجموعة «المنبر» القصصية لعبد الله الناصر, تضعنا في أسلوب «الأمثولة» قلباً وقالباً, فهي تتبنى أسلوباً مباشرًا واضحاً؛ لكنه يشف عن معنى غائر مقصود, يتخذ من الثعبان رمزًا أمثولياً؛ بهدف وضع توازٍ بين المستوى الظاهر والمستوى المتخفي.
وتتجه قصة «أسراب الدجاج» إلى تبني نفس الأسلوب الأمثولي بينما تُعبّر قصة «الواعظ» عن أسلوب «المفارقة الساخرة» وهو نفس المنحى الذي سوف نراه في قصة «المنبر» ولكن بأسلوب «المفارقة الضدّية».
وفي قصة «الحلية» تُمثل الحلية «معادلاً موضوعياً» لإثارة صيغة المعنى الجدلي بين الحياة والموت؛ في معنى صياغة جدلية أخرى؛ بين الفن والموت, كل منهما: الحياة والفن, يسعى إلى تخليد الآخر. لكن إيماءات الرمز الباقية, تشف عن تأويلات واضحة في هذا المدار. هذه هي القصص التي سوف تتناولها هذه الدراسة.
في قصة «الثعبان» حيث يحتل ثعبان, سقف غرفة المخزن في المنزل, ممثلاً خطرًا يهدد من في المسكن, وقد عقد طول جسمه بين خشبات السقف, وفيما يهرع الولد حماد مستنجدًا بأخيه الأكبر, لكن هذا الأخير لم يلق بالاً وحماساً لقتل الثعبان. فيما تحاول العصافير الدفاع باستماتة عن أعشاشها المبنية في سقف المخزن, والتي يهددها هذا الثعبان. وقد نجحت العصافير مجتمعة في إسقاط الثعبان في قلب المخزن. وحماد الصغير, يستجدي أخاه الأكبر في القيام بقتل الثعبان, قبل أن يهدد كل من في المنزل «لنقتل الثعبان يا أخي, ربما يلدغ أمنا, وربما يلدغ أختنا أو أخانا الصغير, هيا لنقتله يا أخي قبل أن يقتلنا. صرخ أخوه في وجهه ثم صفعه في عنف وهو يقول: اجلس يا كلب, اجلس يا حمار». وفيما بقي الثعبان يمثل خطرًا داهماً لمن في المنزل, لا يزال حماد يعاني من انكسار نفسي, يُشعره دائماً أنه «جملة من الكلاب والحمير».
لن أتكلف في تحليل رمز الثعبان في هذه القصة, لأن ذلك ربما يصادر على ذائقة المتلقي, ليختار ما يشاء من معان لهذا الرمز في حياتنا الشخصية, أو السياسية الدولية, وحتى أمراضنا النفسية, ومنها العجز الإنساني في مواجهة الأخطار التي تحيط به. وما بين نجاح العصافير في إبعاد الثعبان عن أعشاشها, وتراخي أخو حماد الأكبر عن مواجهة الثعبان, تنهض مفارقة الموقف؛ لتبرز التناقض في الموقفين, وتجعل التساؤل حاضرًا.
قصة «الحلية», وهي قصة مكثفة, ينتقل الحدث فيها ما بين اليقظة والنوم في حوار يحاول استكناه أصل هذه الحلية. وعمرها الذي يزيد على أربعة آلاف سنة, وكيف انتقلت من يد إلى أخرى, حتى وصلت إليه. هل الحلية هنا رمز السلطة والجاه؟ أم أنها رمز حي, شاهد على قصر حياة البشر. فيما تستعصي حلية جاءت من قرون سحيقة على الفناء؛ تُعلن في إباء وشموخ, عن خلود الفن. هذه الأسئلة والإجابة هي محور التأويل المباشر الأول؛ لكن التأويل المضمر, يتخفى خلف السؤال الذي ختم به الراوي القصة: «إلى متى ستظل الحلية ملكك, وإلى من ستذهب بعدك؟».
في مرثيته الشهيرة, يتساءل الشاعر «توماس جراي», هل يمكن لجرّة مزدانة بالتصاوير الفنية, وتمثال رائع؛ أن يستردا أنفاس الحياة:
«هل يُمكن لجرة (urn) مزدانة بالتصاوير
ولتمثال نصفي رائع أن يستردا الأنفاس؟
وهل يستفز صوت الشرق الغبار الصامت؟
أو يواسي الإطراء اذن الموت الباهتة الباردة؟»
(الترجمة للدكتور محمد منصور أبا حسين, المرجع السابق, ص 106)
ومثل هذه الأسئلة تثيرها قصة «الحلية» في هذه المجموعة. فهل يستطيع هذا الشرق الذي يُعبر عن جلال الفن وأصالة التاريخ - كما يتساءل الشاعر بلغة المفارقة الضدّية الساخرة - أن يستفز صمت الزمن, أو يُحرك اذن الموت الباهتة الباردة أو أن يُقدم المواساة, بما له من إطراء حازه على مر العصور.
في قصة «أسراب الدجاج» وهي قصة عجائبية, يتكئ الكاتب على أقنعة من أنماط الحياة في القرية. وفي أحداث فانتاستيكية تقود دجاجة أسراب الدجاج إلى ممارسة الطيران, هرباً من جور الإنسان على هذا المخلوق الضعيف, وبعد عناء التدريب الذي أقنعت الديك بالقيام به والإصرار, تحقق المعجزة, مما جعل الناس يُذهلون من منظر أسراب الدجاج تطير محلقة في السماء.
وقصة «أسراب الدجاج» هي القصة الثانية, التي يعود الكاتب فيها إلى استخدام «قناع الدجاج» كمعادل موضوعي, يُعبر من خلاله عن مغزى الحدث في القصة. ففي مجموعة «الشجرة», قصة بعنوان «يا» وهي قصة حوارية بين الديك والدجاجة, وتختفي خلف هذا الحوار, الذي لا يختلف كثيرًا عما في قصة «أسراب الدجاج»؛ العديد من المعاني, التي لا يصعب على القارئ المدقق كشف مغزاها.
في هذا المنحى, الذي يعود إليه عبد الله الناصر بين حين وآخر, مستخدماً أقنعة ورموزًا من البيئة القروية, تتبنى أسلوب «الأمثولة», مُذكرًا باتجاه كان سائدًا عند كتاب وشعراء من القرن الرابع الهجري وما بعده, من أبرز ممثليه «جلال الدين الرومي» في «المثنوي», وفي عجائب «فريد العطار» في «منطق الطير» وإن لم يكن معبرًا في ذلك عن المنحى الصوفي الذي كان واضحاً في ذلك التراث, وإنما كان همه يتجه نحو صيغة إنسانية معاصرة, معنية بهموم عصرها.
قصتا «الواعظ» و»المنبر» هما من القصص البارزة, في هذه المجموعة. في قصة «الواعظ», لا نستطيع أن نجزم, بأن الكاتب يصدر في ذلك عن موقف مترصد, للدعاة أو الشيوخ أصحاب المنابر, أو عن موقف أيديولوچي, وإنما سوف نجد في استخدام الكاتب لهذه النماذج, إنما ليكشف عن الازدواجية التي يُخفيها بعض هؤلاء البشر؛ لأنهم بشر وليسوا أنبياء, برغم تضخم صورتهم إلى حد التقديس, والتسليم لهم بما يأمرون وبما يفعلون. وفي هذه القصة يكشف الكاتب عن الازدواجية الكامنة في شخصية الواعظ, وكيف استطاع مراوغة مريديه, من المصطفين في صفوف, للاستماع إلى خطبته, مدعياً أنه سيتركهم برهة ليجدد وضوءه, وحينما يدخل دورة المياه, يُهاتف مدير البنك طالباً منه إيقاف شيك كان قد وقعه بإمضائه, ولكن الأمر اختلط عليه, فقد يكون قد وقعه بتوقيع آخر غير الذي عند البنك, ثم يعود ليمارس الوعظ عن البيوع والمناجشة, والجشع والتكالب على الدنيا وزينتها. وكان قد راوغ المحتشدين لسماع موعظة عن مسألة تتعلق ببيع وشراء أراض. وفي مثل هذه القصة, فإن نمط المفارقة الساخرة أو الشخصية, نجح في أن يجعلنا ننفر من مثل هذا الواعظ, الذي تنطوي عليه شخصيته من ازدواجية جعلت منه أشبه بالممثلين غير الصادقين على المسرح, حينما يتجلل بالبكاء, ويتمسح بالخشوع المستعار, فينخدع المساكين الذين استسلموا للبكاء معه.
وقد نجحت هذه القصة في تعرية هذه النماذج, والكشف عن الازدواجية الكامنة في شخصياتهم, وإزاحة هالة التقديس التي تؤطر هامات كثير من أمثال هذا الواعظ.
ويُطور عبد الله الناصر, من رؤيته هذه, في قصته «المنبر» وهي على ما يبدو القصة الرئيسية في المجموعة, حيث اختارها المؤلف عنواناً لهذه المجموعة القصصية. تتبنى هذه القصة, صيغة المفارقة الساخرة, التي تؤطر شخصية الشيخ سليمان, الذي يتبوأ منبر مسجد القرية لأكثر من ثلاثين عاماً, يُلقي خطبة الجمعة التي يتلوها من كتاب قديم يزيد عمره على مائتي عام, وعلى هذا, فهي خطبة عفا عليها الزمن, لا تمثل هموم الناس ومتغيرات حياتهم, وهو الأمر الذي اكتشفه أهل القرية, عندما ترك شيخهم المنبر مضطرًا, بعد ثلاثين عاماً لم يتغيب يوماً عن خطبة يوم الجمعة. حيث عزم على أداء فريضة الحج, وخلفه على القيام بخطبة الجمعة مدير المدرسة, وكانت خُطبة هادفة, تناقش أمورا مجتمعية عصرية, وسرعان ما ألف الناس هذه الخطب, واكتشفوا البون الشاسع, بين هذه الخطب التي تحاكي شئونهم, وبين تلك الخطب القديمة المحنطة منذ مئات السنين, ولكن الأمر لم يدم على حال, فقد عاد الشيخ سليمان من الحج, وصادف يوم عودته يوم الجمعة, وبعد أن أسرّ إليه مؤذن المسجد, بما جرى في غيابه عن المنبر, وأن خطب مدير المدرسة قد غيرت الناس, وأحدثت في نفوسهم شيئاً عظيماً, الأمر الذي جعله يترك كل شيء ويهرع إلى المسجد, فيجد مدير المدرسة على المنبر يتلو خطبة الجمعة, ولم تجد محاولات الشيخ سليمان لإثناء المدير عن إكمال الخطبة وترك المنبر, فهرع إليه محاولاً جذبه وإنزاله من المنبر, فيتعارك الاثنان والناس في حيرة من أمرهم, غير مصدقين لما يجري أمامهم, وينتهي مشهد العراك خارج المسجد, ويُقسم الشيخ سليمان بعد أن شعر بهزيمته, وتعرض هيبته للمهانة, بألا يُصلي بالناس, كرد فعل, لأن الناس لم ينتصروا له أمام مدير المدرسة. وبعد شهر تعطل فيه قيام صلاة الجمعة في المسجد, سعي بعض أهل القرية إلى الشيخ للأخذ بخاطره, وقدموا له ملابس جديدة, وادخلوا إلى بيته كبشين سمينين, فعاد إلى كتابه القديم, وعاد النعاس وعاد الحمام مُطمئناً للنعاس والسكينة التي عادت تُظلل المسجد.
هذا ما توحي به هذه القصة في سرديتها المباشرة, كما يبدو للقارئ المتعجل, الذي سيجد أن حالة التخلف, الذي تمثله خطب الشيخ سليمان, قد انتصرت على التطور والمعاصرة, التي تمثلها خطب المدير, الذي هو رمز لهذا التطور. لكن قارئ القصة, عليه أن يكتشف ظاهرة «المفارقة التنافرية» التي تكشف عن شخصين بينهما تنافر واضح, متمثلاً في شخصية المدير, الذي يُعبر عن التطور والتنور، وبين شخصية الشيخ سليمان، التي تُعبر عن التخلف غير القابل للتطور ومعاصرة العصر، لأنه حينما عاد إلى المنبر، عاد ومعه خطبه القديمة، ومع ذلك يسعى أهل القرية إلى تكريس بقاء الشيخ سليمان، ومعني ذلك أن الأمل في مواجهة التخلف، لا يزال أمرًا عسير التحقيق، رغم العراك بين النموذجين، وهو عراك بين القديم غير الأصيل، وبين الجديد المتطور، وسيظل هذا العراك قائماً، ما بقيت الحياة والإنسان.