هالة الناصر
قلبت مواقع التواصل الاجتماعي في العديد من بلدان العالم، موازين القوى الفكرية فيها، وجاءت بمن كانوا يجلسون في القاع لتضعهم على قمة القوة المحركة والموجهة للرأي العام، بينما همشت أصحاب الرأي من النخبة، من خبراء في جميع المجالات وبالذات من إعلاميين ومثقفين وأبعدتهم في الظلام.
فبات من السهل، أن تجد من لايملك أي فكر أو علم يتحدث في شؤون العامة عبر حساباته على السوشيال ميديا، ويتفاعل معها الآلاف ويصدقون ترهاته وسخافاته، ويتناقلوها وينشرونها وكأنها كتاب منزل، حتى تصبح كلماته الركيكة الجوفاء، بمثابة قواعد ومبادئ تحرك الأجيال! ولا يقتصر هؤلاء العوام على مجال بعينه أو قضية محددة، بل تجدهم يفتون ويتحدثون ويتكلمون في كل ما ليس لهم به علم، حتى النظريات العلمية، تجدهم يشككون فيها والكارثة أن هناك من يصدقهم ويؤمن بخزعبلاتهم!
وفي ظل انخداع الجماهير بـطرح العوام واعتقادهم بأن ما يقولونه هو الصواب المحض والحقيقة المطلقة، يغيب ويختفي ويتهمش دور أصحاب الخبرة والرأي الحقيقيين، المنوط بهم لعب دور فعال في تثقيف وتنمية وتوعية المجتمع، فعندما تسود الأكاذيب وتعم الضلالات، يصير صاحب كلمة الخبرة والرأي، كلماته مشكوك فيها ومرفوضة، ودفاعه عن الحقيقة مطعون في نواياه.
ولا يخفى التأثير الكارثي لهذه الظاهرة على العقلية الجمعية لأي أمة من الأمم، والتي ستتحول مع مرور الوقت من عقلية واعية قادرة على التفريق بين الغث والثمين، إلى عقلية محدودة الأفق، عقلية مشوشة يسهل خداعها والتأثير عليها، وذلك لأن مثلها الأعلى والمنبع الذي تستقي منه أفكارها هو ذاك العامي عديم الثقافة، وربما عديم الضمير، منبع ضحل لا يستقى منه إلا الغث.
ومجتمع صورته بهذا الشكل، لا يمكن تخيل الأزمات الطاحنة التي قد تضربه في أي وقت، أزمات هي في الأصل ضعيفة وبسيطة، ولكنها قد تقضي عليه بسبب كونه مجتمعا فاقدا للمناعة، غير قادر على مواجهة الأخطار والتصدي لها والتغلب عليها، في ظل التشويش المتعمد على فكر وذهن عناصره، ما سيبقي ذاك المجتمع ضعيفا دائما بين المجتمعات، غير قادر على المنافسة أو خوض صراع التفوق والتقدم.
فالمجتمع الذي يصدق معالجا شعبيا يكتب على مواقع التواصل الاجتماعي أنه قادر على علاج السرطان، لن يستطيع خوض سباق الدول الكبرى على اكتشاف الفضاء وبناء المركبات التي تصل إلى أبعد مدى في الكون المنظور.