أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: (الفكر) بكسر الفاإ اسم للعمل الذي يقوم به العقل للوصول إلى معرفة مجهولٍ من تصورٍ أو تصديقٍ؛ من أجل استحضار صورة المجهول، أو حكمه، أو جلاإ الشبهة حوله.. وأما المصدر فيكون بفتح الفاإ؛ أي (الفكر)، والفعل ثلاثي، وهو فكر بفتح الفاإ والكاف والراإ.. إلا أن هذا الفعل أميت؛ وبقي منه الاسم، وقام مقامه الرباعي فكر، وقام مصدره؛ وهو التفكير مقام مصدر الثلاثي بفتح الفاإ أي الفكر؛ والسر في ذلك أن عمل العقل يكثر في البحث عن المجهول؛ فجعل فعله فكر الرباعي؛ لأن زيادة المبنى لزيادة المعنى مع جعل اسم ما حصل بالتفكير نفس الاسم من الثلاثي؛ فلم يحتج لزيادة مبنى؛ لأنه بعد حصوله صار سهلاً وإن حصل عن مشقة.. وأعمال العقل المسمات تفكيراً من أجل الوصول إلى المجهول كثيرة كالتذكر والتصور، والتخيل، والتفطن، والفهم، والتمييز، والمفارقة؛ ولكون التفكير عن عناإٍ وأعمالٍ عقليةٍ: توقع بعض اللغويين أن يكون الفكر مقلوب الفرك؛ لأنه فرك للمعاني؛ ولئن لم تصح دعوى القلب: فالعلاقة بين الفكر والفرك متأصلة بنظرية الجذر الثنائي؛ ويرادف التفكر التأمل؛ لأن الأمل للبعيد، والرجاأ للقريب؛ وما حول القريب، ولهذا صار رجاأً؛ والتأمل زيادة مبنى على الأمل ؛ لأن فيه رجاأ البعيد وانتظاره؛ وما عند الله سبحانه وتعالى، وما يريده قريب؛ ولا يجوز لمسلمٍ أن يقول: ما عند الله بعيد .
قال أبو عبدالرحمن: اللغويون يعبرون عن التفكر بإعمال الخاطر، وإعمال النظر؛ ويريدون ما يخطر على العقل من صورٍ أو حججٍ أو شبهاتٍ؛ ويريدون نظر العقل؛ وبعضهم يعبر بالقوة؛ وهي قوى العقل، وبعضهم يدخل القلب وسيطاً في أعمال التفكر؛ والواقع أن العمل للعقل لا للقلب.. إلا أن القلب وهو محل المشاعر هو الذي يحسم عمل العقل بعد عنائه باعتقاده اليقين أو الرجحان أو البطلان أو التوقف؛ والله سبحانه وتعالى يخاطب القلب والفؤاد واللب كثيراً؛ لأن نتيجة عمل العقل تقر فيه؛ ولأن لصلاح وفساد مشاعره أثرا في صدق التفكير؛ ولقد أسند الإمام ابن فارس رحمه الله تعالى كل عمل الفكر للقلب؛ فقال: الفكر تردد القلب في الشيىء .
قال أبو عبدالرحمن: ليس هذا معنى الفكر الذي هو عمل العقل؛ وإنما هو تعريف بالباعث للتفكر عندما لا يكون في وجدان القلب يقين، وقصر (الراغب)، وتابعه (السمين) مجال الفكر في الشيىء الذي يمكن أن تحصل له صورة في القلب؛ بل الصورة في العقل لا في القلب؛ وإنما القلب يعتقدها، ويؤمن بها؛ ودعوى حصر مجال الفكر في ماله صورة في العقل ليست على إطلاقها؛ بل لابد من التفريق بين عناصر المعرفة وبين ما تراد معرفته؛ فعناصر المعرفة صور في العقل بلا ريب؛ لأن العقل لا يعمل إلا بمدارك الحس؛ وأما ما تراد معرفته فقد لا تحصل صورته؛ وإنما المتحصل معرفة وجوده، وإدراك صورة آثاره مع العجز عن تكييفه؛ وقد يكون المتصور المعاني اللغوية؛ لأن المراد التفكر فيه؛ لأجل معرفته؛ وإنما يعرف بالوصف، وتحتم وجوده، ومعاينة آثاره؛ وقد يعرف المصطلحون التفكير؛ فلا يذكرون العقل ونظره اتكالاً على فهم السامع كقول الجرجاني: (الفكر ترتيب أمورٍ معلومة للتأدي إلى مجهول)؛ ورأى الدكتور (جميل صليبا): أن الفكر يطلق بالمعنى العام على كل ظاهرة من ظواهر الحياة العقلية. قال أبو عبدالرحمن : من الظواهر العقلية التذكر؛ ولا يسمى وحده فكراً، والتخيل ولا يسمى وحده فكراً؛ وقد أخذ هذا الاصطلاح من (ديكارت) إذ قال:(إن أفكارنا تمثل نسخ الأشياإ، وإن كمالها متناسب مع درجة تمثيلها لهذه النسخ)؛ وقال:(إن بين الأفكار التي لدي فكرة تمثل الله).
قال أبو عبدالرحمن: الله سبحانه لا نتمثله بتخيلٍ؛ وإنما نعلم وجوده بالبرهان، ونعلم كماله بالبرهان إجمالاً، ونعلم كماله تفصيلاً بالخبر الشرعي الذي أخبرنا به ربنا سبحانه وتعالى بالوصف لا بالتكييف والتشبيه والتمثيل.
قال أبو عبدالرحمن: البشر يتخيلون صورة الموصوف بمقتضى صور الأوصاف في أذهاننا إلا ما يتعلق بربنا سبحانه فلم يؤذن لنا ذلك شرعاً، والتخيل عاجز عن استكناهه عقلاً.. وهناك أفكار أخرى تمثل الأشياء الجسمانية الجامدة؛ وهذا عدا الفكرة التي تمثل نفسي لنفسي [التأملات التي هي جمع التأمل] )).
قال أبو عبدالرحمن: والفرق بين الفكرة والصورة أن الصورة جزئية مشخصة فرق نفيس إذا أريد الصورة البصرية؛ وحينئذ تكون الفكرة (الصورة الذهنية) مقابل الصورة البصرية؛ وأما إذا كانت الصورة غير مشخصة فحينئذ تكون الصورة والفكرة بمعنى واحد؛ ففكرتي عن طعم التفاحة أعبر عنها بلفظ أو ألفاظ دالة على نوع حلاوتها؛ فالفكرة لا تظهر إلا بتعبير يحيل إلى صورة الطعم في عقلي وعقلك؛ ولا مجال لتشخيص هذه الفكرة إلا بتذكرها ذهنياً؛ إذن الفكرة هاهنا صورة ذهنية؛ فإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان.