هنالك أشخاص يعبرون دنيانا يأبون على أنفسهم أن يكون مرورهم عادياً, البصمة عندهم حياة أبدية، تراكمها بناء للحضارة الإنسانية، وأرواحهم سقيا لأجيال الغد ينهلون أعذب ما خطت أيديهم، تتعاقب عليها الفصول وتمر بها الأيام والليالي وتبقى مجهوداتهم في التراث الإنساني مدرسة تتنوع فيها الاختبارات. لقد غمرني إحساس اختلجت فيه مشاعر الحزن والألم لرحيل ذلك الإنسان الهمام ذلك العلم الطود من أعلام الفكر والمعرفة، إنه مثال لاجتماع الإرادات الإنسانية ونموذج لاستجابة القدرات الكامنة وأيقونة للعمل الدؤوب والمثابرة. إن الذي غادر الحياة إنما هو الجسد أما الروح فباقية تتشكل في إرثه الوافر تصديقاً لقول رسولنا الكريم (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث)، ومنها علم ينتفع به، وما خطته أنامله باقٍ كشموخ الجبال الراسيات تشهد عن دماثة أخلاقه وبشاشة روحه العطرة.
ودعنا بالأمس القريب 21-2-1440هـ الموافق 30-10-2018م الرجل الفاضل الأديب المحب العم عبدالله بن حمد الحقيل إلى دار الخلود وسط جمع غفير من أبنائه ومحبيه وزملائه ومعارفه وتلاميذه رافعين أكف الضراعة أن يتغمده الله بواسع رحمته ويسكنه فسيح جنته، وكم تضطرب مشاعري وأنا أخط هذه الكلمات عنه وما أعانيه من الحرج بحكم صلة القرابة به إلا أنني سأتطرق إلى الجانب الإنساني في حياة الراحل بحكم أنه سبقني الكثير من محبيه الذين تطرقوا إلى حياته (رحلته) العلمية والعملية، بدءاً من حبه وشغفه للعلم منذ بداية التحاقه بمدارس التوحيد بالطائف التي شد الرحال إليها من بلدته المجمعة إلى تخرجه من كلية اللغة العربية عام 1958م إلى سفره إلى بيروت والتحاقه بمعهد الأمم المتحدة هناك وحصوله على دبلوم التربية المقارنة والتخطيط التربوي عام 1962م ثم ابتعاثه إلى الولايات المتحدة الأمريكية التي أنجز فيها درجة الماجستير من جامعة أوكلاهوما في الدراسات العليا في الإدارة التربوية عام 1973م، وقد كان لحبه وحرصه على النشر والإفادة من علمه أن كان من أبرز الناشطين في حركة التعريب، إذ كان من أوائل من أسهم في ذلك عندما عمل أستاذاً للغة العربية وآدابها في كلية المعلمين بوهران بالجزائر قبل 55 عاماً وما تقلده من المناصب التي منها أميناً عاماً للمجلس الأعلى لرعاية الأداب والعلوم والفنون، ثم مديراً عاماً مساعداً للإدارة العامة للإحصاء والبحوث، وثم خبيراً تعليمياً ثم مستشاراً تعليمياً إلى أن حط رحاله في دارة الملك عبد العزيز التي تدرج فيها إلى أن أصبح أمينها العام ومديراً عاماً لمجلتها، أما مؤلفاته فيضيق المجال عن سردها إلا أنها تنوعت ما بين الشعر والتربية والتاريخ وأدب الرحلات، نذكر منها: (كلمات متناثرة، في التربية والثقافة، رحلات وذكريات، على مائدة الأدب، رمضان عبر التاريخ، صور من الغرب، من أدب الرحلات، الشذرات في اللغة والأدب والتاريخ والتربية، رحلات إلى الشرق والغرب). وقد طبعها على نفقته ويستمتع كثيراً بإهدائها إلى أحبابه ومراكز البحوث والمكتبات مجاناً.
كما له إسهامات ومشاركات في الصحف والمجلات فضلاً عن أحاديثه الإذاعية والتلفزيونية ومشاركاته في المواسم الثقافية والأدبية داخل المملكة وخارجها.
وفي المجال الإنساني الذي أرغب في إبرازه ترددت كثيراً في الكتابة عن إسهاماته في الأعمال الخيرية المتنوعة، وهو من الداعمين الرئيسين لصندوق أسرة الحقيل الخيرية، مكتفياً بهذا على سبيل المثال لا الحصر إحتراماً لرغبته بعدم الحديث عن هذا الجانب في حياته فكيف وهو الآن في دار الحق.
وفي صلاته العائلية فهو حريص على هذه العادة الإسلامية لزيارة وتلبية دعوة أقاربه واهتمامه الشديد بالحضور والدعم المعنوي والمادي، لذلك رغم أنها قد تشكل له بعض الإرهاق نظراً لمحور العائلة الكبير واتصالها بكثير من العوائل سواء من النسب أو العلاقات الاجتماعية، وقد كان -رحمه الله- حريصاً على تحفيز وتشجيع أبناء العائلة على القراءة والحديث باللغة العربية التي يستخدمها دائماً في حديثه والأخذ بأيديهم إلى هذا المجال وحرصه على تواجدهم بمجلسه والإشادة بهم حتى يزرع فيهم روح المبادرة والثقة، إنه -رحمه الله- ومن خلال سيرته العطرة وعطاءاته المتنوعة مجموعة إنسان في رجل. رحم الله فقيدنا العم أبو خالد رحمة واسعة، وعزاؤنا لأخيه عميد أسرة الحقيل فضيلة الشيخ عثمان بن حمد الحقيل رائد التعليم بمحافظة المجمعة وأول مدير لمعهدها ومدير عام رئاسة القضاء والمشارك في تأسيس وزارة العدل، ولجميع أفراد أسرة الحقيل كافة وأصدقائه ومحبيه.
** **
د. يحيى بن عبدالعزيز الحقيل - وكيل وزارة الشؤون البلدية والقروية للشؤون البلدية المكلف