شريفة الشملان
مؤكد أنكم لا تعرفون عبدالمقصود، أنا أعرفه منذ 25 عاماً، كان خياطاً بسيطاً بدكان صغير، خلف حارتنا، كان يأخذ مبلغاً بسيطاً، وعادة يقصر ويضيق ويطول، لم يكن محترفاً، وكبر وانتقل لمحل أكبر، وبدأ يخيط بسعر معقول نوعاً ما، كبر أكثر صار لديه مساعدون، وكبرت المبالغ وتضخمت. أتذكر أمي وأغلب أمهاتنا كن يخطن ملابسنا، كانت جميلة بما في ذلك ملابس العيد، بل كانت أمي هي من يخيط ملابس المدرسة والحقيبة المدرسية، كانت تحضر خشبتين جميلتين ملونتين بألوان مبهجة.. وقماشاً قوياً جداً.. ونحمل تلك الحقائب ونحن مبتهجات، وكلما كبرنا كبرت الحقائب، وسلمنا القديمة للأصغر منا.. وهكذا. الآن كلما أذهب إلى الخياط عبدالمقصود أشعر بأننا خسرنا الكثير من مهاراتنا، ليس في الخياطة فقط، ولكن حتى في الطبخ، وهذا أغرب شيء، فما أن تكون هناك دعوة في البيت إلا ويتم التفكير من أيّ مطبخ ومن أيّ الأصناف.. ناهيك عن المبالغة فيما نقدم وكأننا نعيش لنأكل.. وقد نعزم معنا قطط القمامات. شيئاً فشيئاً فقدنا الكثير وكل يستغل حاجتنا، حتى عندما أحضرنا خدماً لنصاب بالكثير من الأمراض نتيجة للكسل وعدم الحركة، ظهور مؤلمة وأرجل موجعة وضغط وسكر.. واستغلتنا أيضاً وكالات الخدم كما استغلنا الخدم ذاتهم..
قد يبدو حديثي اليوم غير مألوف في هذا الوقت ونحن نعاني من مصائب جمة، ولعل أكبرها ما لوّث الأرض والسماء، وهو عدو ملوثة يداه بسرقة شعب وأرض وآخرها يوم الجمعة فقد قتل أربعة فلسطينيين، كل ذنبهم أنهم تظاهروا لحق العودة.. فكيف يحق للصهاينة أن يعودوا بعد 4000 سنة حسب ما يرددون وليس للفلسطيني الحق، وهو الذي طرد منذ 67 عاماً.. كيف كان ذلك يحدث لولا عملية الابتزاز التي تعرّض الجميع لها، وعملية التسويف، ومبادرات الأرض بدل السلام، ولا أرض وجدت ولا سلام حل.
هل نعطي نحن لأعدائنا الفرصة لابتزازنا عبر أخطاء أو نكايات ببعضنا البعض، لا السكوت ينفع ولا الكلام.. علينا أن نتذكر دوماً (ويل لأمة لا تأكل مما تزرع ولا تلبس مما تصنع) وأيضاً لا تحارب بما تصنع.. هناك مناسبات وحوادث كثيرة لطرق الابتزاز؛ سواء في حياتنا الشخصية أو في حياة الشعوب عامة، قد أذكر هنا ابتزاز البنوك، سواء لنا كأفراد أو البلدان، يأتي البنك ليغري الأفراد.. اشترِ سيارة وقسطها، واشترِ أثاثاً وقسّطه وبيتاً وقسطه ثم يجد الفرد نفسه لا يستطيع التحمل، فيجدول وتتراكم الفوائد، ويكبر الابتزاز.
البنك الدولي يعمل ذلك باحترافية كبيرة، بلدان على أنهار تهدر، وقوة بشرية كبيرة وأرض خصبة، ثم يغرونهم، لا تزرع، اشترِ وقسّط.. وهنا تكون البلدان عرضة للابتزاز من البائع ومن البنك، وتتراكم الديون وتضطر الدول إلى سلفة من دول أخرى، وتضطر إلى مراعاتها أيضاً، وتضطر إلى تحمل الضغوط.
علمنا أهلنا إن صبرنا على أنفسنا أحسن ألف مرة من صبر الناس علينا، وهذا يتجاوز الأفراد للشعوب والبلدان..
الفساد هو أكبر مؤسس للابتزاز، حيث يحاول المفسد تغطية جريمته بجريمة أخرى لتشغل المجتمع عنه، وشيء يجر آخر؛ لذا فإن دحر الفساد في مهده أفضل بمراحل من تركه يكبر ويتجذر بكثير.
أخيراً.. ليس الخياط وحده من يبتزنا، ولا الشغالة، ولا الكثير كأفراد وكوطن مما حولنا، ولو كتبت أكثر لقلت أكثر.. ولكني سأكتفي بالقول «علينا ألا نعطي أحداً مجالاً لابتزازنا، ونحمي بيوتنا وعقولنا من أن نُبتز، طالما أننا بحاجة لهم». وأعود وأقول «رحم الله من قال: (ويل لأمة لا تأكل مما تزرع ولا تلبس مما تصنع)».