د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** مثَّل فيلم (أركتيكت) أو: «المهندس المعماري» - الذي صادف اهتمامًا وقت عرضه عام 2016 م - حكاية الحياة حين تتقاطع فيها وجهات النظر المتضادة فيسود رأي وتُداس آراء؛ فالمهندس الذي صمم بيتًا لزوجين متآلفين لم يراعِ واقعهما بل رغباته، واستمال طرفًا وتجاهل الآخر، ودقَّ بمهارته الإقناعية إسفينًا بينهما حيث راق للزوجة التصميم أو كذا بدا تحت تأثيره ولم يرُقْ لشريكها، وتداخل في الأمر المقاول والأسرة الأكبر، وكاد الأمر يبلغ حد الانفصال بينهما بالرغم من أن الزوجة كانت حاملاً بمولودها الأول، ولا دلالة في تفصيل مجريات الفيلم أكثر، ويكفي مما سلف أن من يفكر عنك قد يقرر بالنيابة عنك؛ فلا تجد نفسك في ملامحه ولا داخل ذهنه ولست جزءًا من نهجه، وتبدأ الإشكالات الصغيرة فتكبر انعكاساتها على المبنى كما المعنى لمن لم يصُغْ تنميطها ولم يصنع دهشتها.
** ليس المهندس المعماري بِدعًا في سلوكه؛ فبالرغم من أنه أجيرٌ لصاحبي الأرض، أو هكذا يُفترض، فقد صار وليَّهما وذا اليد الطولى فوقهما، وأدركا متأخرين أنه استغلهما فبات التغيير صعبًا وناتجه مشوهًا وتضاعفت الخسارة المادية والإرباك المعنوي.
** كذا ترتسم الحياة حولنا حين يكون دورُنا الاستقبال السلبيّ والإذن المستلب فيتحكم الخارج في مساراتنا ونفتقد الرؤية الواعية والقرار المستقل والمسافة الفاصلة بيننا وبين توغل الآخرين في تحديد اتجاهاتنا دون النظر إلى دوافعهم فمهما خلصت نواياهم فلن «يحك جلدَك مثلُ ظفرك».
** تبقى الحكايات الفردية في إطارها المحدود مهما بلغ تأثيرها على رجل استُلب قرارُه وامرأةٍ حُجمت مكانتُها وشاب أعتم مستقبلُه وفتاةٍ تُسيّر وطفلٍ لا يُخيّر وموظف لا يُستشار وبيروقراطي لا يستشير لتُطلَّ الجماعاتُ المستلبةُ في فضائها الممدود عاجزةً عن التفكير في معاشها ومعادها، وفيها من تحزّب حتى لا يرى غيرَ الحزب، ومن تابع فلم يعنِه أن يعير عقله لسواه، ومن مشى خلف القطيع ولو أوردوه الردى، ومن قال: سمعت الناس يقولون فقلت ويفعلون ففعلت ويسيرون فما توقفت.
** هل نحكي هنا عن «استقالة العقل» أو إقالته، وهل ندخل في حوار الجابري- طرابيشي حول «نقد العقل العربي»، وهل جاءت الاستقالة داخلية أم أنها إقالة خارجية؟! وهل البيت في الفيلم بتفسير رائيه هو البناء العربي المتداعي منذ صارت الهُوية التابعة إطارَ التفكير الجمعي العاجز عن استلهام تراثه وتنقيته وتفجير مكامنه وتحريك راكده والبناء على تركيمات الفكر السابق واللاحق دون الاستسلام المطلق لمخرجات الفلسفة الأوربية وجذورها اليونانية ومنحها الأرض والقرض كي تخطط وتصمم وتنفذ بمعزل عن منهج فكري مستقل قادر على التوسط بين الانكفاء والارتماء كي لا نبقى ذوي البيت الذي لا نألفه وربما لا نعرفه.
** العقل لا يُؤجّر.