د.فوزية أبو خالد
- 1 -
من سريري بالمستشفى أسكت بالدواء آلامي، وتابعت الأخبار الأمريكية الصادمة، وردات الفعل عليها، وتحليلاتهم لها؛ لنشترك في قراءتها معًا.
مقتطفات من آراء الشارع الأمريكي في مذبحة بتسبرغ:
«نشعر بالغضب، نشعر بالحزن، نحن في حالة حداد عام، ليس على هؤلاء الذين أُهدرت حياتهم ظلمًا وعدوانًا فقط، ولكن على قيم العدالة والحرية، وعلى الحلم الذي قامت عليه هذه البلاد، وكتب بحبره دستورها (الحلم الأمريكي) في الكرامة والمساواة وتكافؤ الفرص والعيش التعددي بأمن وسلام».
«حادثة بتسبرغ ليست نسيجًا وحدها؛ فقد سبقتها مذابح مشابهة في فلوريدا وكاليفورنيا وكنتاكي وميشجن و.. والخشية أنها لن تكون الأخيرة؛ فقد يتبعها المزيد من الغيلات الجديدة والاعتداء على أبرياء».
«في عنق كل أمريكي شريف منا كلمة حق لهؤلاء الضحايا. فإذا كان ضحايا العدوان الرخيص الباهظ على حياتهم قد فقدوا باغتيالهم القدرة على الاحتجاج على ميتتهم البشعة فلا أقل من أن نكون صوتهم الذي يدافعون به عن حق الحياة، الذي يذودون به عن سقوط ضحايا جدد لا ذنب لهم إلا وجودهم على أرض خالوها دارًا للسلام».
«ما حدث هو كسر لروح أمريكا المعنوية، وللتعدد والتنوع والحرية».
«اليوم كلنا بتسبرغ».
«من المفارقة أن يتحول مقر شجرة الحياة Tree of life إلى مقبرة جماعية لأحد عشر مواطنًا أمريكيًّا على هويتهم الدينية».
«كأن ذلك الوغد الذي أطلق رصاصة الموت على ذلك العدد من المدنيين الأبرياء قد أطلق رصاصه على كل منا؛ فترك جرحًا لا يُمحى على وجه تمثال الحرية على وجه العالم المتحضر».
«الحادث ما لم يجرِ شجبه عملاً وليس قولاً وحسب, قانونيًّا وسياسيًّا أيضًا, وما لم يجرم ويبحث كقضية ضمير وطني وإنساني، من الممكن أن يتكرر ويكون عرضة له أي مهاجر, مقيم أو مواطن أمريكي، لا تنطبق عليه مواصفات متلازمة التفوق العنصري الأبيض».
- 2 -
سؤال: ما الدافع لجرائم الإرهاب العنصري؟
أما السؤال الذي سأله طيلة يوم الأحد 28/10/2018، وربما الأيام اللاحقة، ولأيام تأتي، كل مواطن أمريكي، وسألته الصحافة الأمريكية الورقية والإلكترونية، وسألته مختلف القنوات الإعلامية، هو: ما السبب المحرض اللحظي؟ وما الدافع المبيت العميق لمثل هذا الحدث الكارثي المروع الذي لا يخفى فيه سبق العمد والترصد لارتكاب مذبحة دامية في حق مدنيين مسالمين؟
وقد استضافت عدد من القنوات - منها على سبيل المثال قناة السي إن إن وسي بي إس وصحيفة النيويورك تايمز والوشنطن بوست - عددًا من أصحاب الرأي من الكتّاب والأكاديميين والصحفيين والنواب لاستطلاع رأيهم في الأسباب الكامنة أو الظاهرة وراء مثل هذه الفجيعة الوطنية داخل المجتمع المدني الأمريكي. (يمكن الرجوع لروابطها لسماع الأقوال وقراءة التحليلات).
وقد كنت بحكم انتمائي لعالم الرأي في حقل الكتابة والحقل الأكاديمي أتوجس أن تنحصر محاولة إيجاد الإجابة عن مشجب العداء السامي ضد اليهود Anti Semitism, إلا أنني فوجئتُ باقتصار ذلك على القلة ذات المرجعية الصهيونية، أما الغالبية العظمى من الآراء فقد عنيت بتقديم محاولات تحليلية جادة ومعمقة، تحاول فهم الحدث على كارثيته بالبحث عن إطاره الموضوعي كجزء من سلوك سلطوي، بدأ يستشري في الولايات المتحدة الأمريكية، وليس كحادثة عرضية منقطعة، لا تمثل إلا وجهًا واحدًا من أوجه العنصرية المقيتة.
- 3 -
علاقة ترامب بعودة جرائم التعصب العنصري إلى المجتمع الأمريكي.
وفي هذا الإطار التحليلي، وعلى الرغم بطبيعة الحال من عدم تبرئة عنصرية العداء للسامية، خاصة أن كل ضحايا بتسبرغ كانوا من الأمريكيين اليهود، إلا أن النظر إليها من قِبل هؤلاء المحللين جرى لها باعتبارها واحدة من عدد من أشكال العنصرية التي يجري استعادة مجدها اليوم، ويعود تفشيها داخل المجتمع الأمريكي بقوة بعد أجيال من النضال ضدها على أثر صعود ترامب لسدة السلطة الرئاسية، ونتيجة لخطابه السياسي القائم على الروح الشعبوية المفتتة لروح الاتحاد المجتمعي، على حسب تعبيرهم.
فكاتب مثل نورمان إيسن Norman eisen ، صاحب كتاب القصر الأخير الذي قدَّم فيه تتبعًا تاريخيًّا تحليليًّا لجذور العنصرية في علاقتها بالخطابات السياسية المتعصبة والمترسبة التي يجري استعادتها في القرن الواحد وعشرين من قِبل خطابات سياسية شوفانية, عزا هذه الحادثة بشكل لا مواربة فيه لاعتماد دونالد ترامب في سياسته الانتخابية وفي استمرار وجوده الرئاسي على تقوية الخطاب العنصري الأبيض بمواصفاته المعادية لكل ما هو مغاير لصورة الأمريكي التي يمثلها ترامب ببشرته البيضاء وشعره الأشقر وعيونه الزرقاء وذكائه المالي وتعاليه العرقي.
أما الصحفية روبيكا جون فقد حددت انتقادها بعدد مما يسمى بأدبيات العداء العنصري في الخطاب الرئاسي، منها تلك التغريدات التي طالما كتبها الرئيس في تعزيز لنظرية المؤامرة، وفي ترديده لمقولة الاستهداف التآمري العدائي للأمريكي الأبيض من خارج وداخل أمريكا من قِبل الأعراق المتعددة المهاجرة أو القاطنة لأمريكا. وفي السياق نفسه وُجهت رسالة صريحة للرئيس من قِبل مجموعة أمريكية تقدمية، تقول «إنه غير مرحب بالرئيس في مدينة بتسبرغ إلى أن يقوم علنًا بإدانة خطابه العنصري المحفز للكراهية والتعصب والتفرقة بين مختلف الأمريكيين على أسس عرقية ودينية من خلال إدانة ما يسمى كراهية ترامب العنصرية White Nationalist Chauvinism».
والحقيقة إنني لست على استعداد لذكر كل ما جرى ذكره في معرض النقد والنقد الساخر لسياسة الرئيس الأمريكي العنصرية، بما فيها القول بقلة خبرته، وبفجاجته السياسية، وعجزه القيادي عن التصرف بمسؤولية تجاه أحداث العنف التي جرت على أرض بلاده بسبب مواقفه المتعصبة, ومنها النقد لردة فعله الأولى التي رأى فيها أنه لو وجدت حراسة مسلحة لموقع الجريمة قبل وقوعها فربما حمت القتلى في لوم واضح للضحية بحسب التحليلات، إلا أنني قد أختم بتلك القراءات التي رأت في الحادثة أبعد من الحادثة، وأعطتها مسمى «الإرهاب المحلي».
وفي هذا قال بعض المحللين: لا بد من التعامل مع عنف الكراهية والتنمر على أنه جريمة فيدرالية مكتملة الأركان؛ لتجري محاكمتها وتقنين عقوبتها على هذا الأساس القانوني، وليس على أساس أنها مجرد جريمة فردية عابرة ومنفردة.
هذا التوجه التحليلي في النظر لحادثة بتسبرغ وشاكلتها أو تنويعاتها من جرائم التعصب العنصري يستحق التأمل في مواقف النقد الذاتي الضرورية لمسيرة المجتمع، ولأحداثها المفصلية، ليس من مواقع العداء للمجتمع كما فُسر موقف بول جان سارتر خلال المواجهة الجزائرية للاستعمار الفرنسي, ولكن من موقع تفكيك الفعل المسيء للمجتمع، أي من موقع المسؤولية والمساءلة للذات الرئاسية (هنا). وهذا النهج هو بعض مما يتمثل في نموذج الناقد المتصل، وليس المنفصل الذي يطرحه مايكل ويلزر في كتابه «تأويل النقد الاجتماعي» كاشفًا خطورة حمل المحاسبة النقدية أو التحليل النقدي محمل العداء، بينما العكس هو الصحيح للتصحيح، ولعدم تكرار كوارث تعصبية مشابهة لمذبحة بتسبرغ بنسلفانيا. والمرجو أن تكون الأخيرة.