د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
في البدء.. عزاؤنا لأسرة المرحوم جمال خاشقجي فقد ذهب إلى جوار ربه، لعل الله يحسن مثواه ويغفر له ويتجاوز عنه، فحادثة موته كانت بكل المقاييس مؤسفة ومؤلمة كما ذكر سمو الأمير محمد بن سلمان على هامش مؤتمر الاستثمار؛ وزادتها وسائل الإعلام من التشهير والدراما ما حولها من جريمة جنائية إلى قضية سياسية عالمية ملأت تفاصيلها شاشات الفضائيات العالمية، نسجت حولها تفاصيل بشعة دونما أية مراعاة لحرمته كمتوفى، ودونما مراعاة لمشاعر أسرته.
أجرت المملكة تحقيقات على أعلى المستويات وأعفت عددًا كبيرًا من المسئولين الكبار الذين يعتقد أنهم تجاوزوا حدود مسئولياتهم وأرادوا أن يخفوا إخفاقهم فأدخلوا حكومة المملكة في حرج كبير غير مسبوق.
وقد صرح سمو ولي العهد على هامش مؤتمر الاستثمار بأنه سيكون هناك إعادة هيكلة جذرية للأجهزة الأمنية لمنع حدوث أخطاء كهذه مستقبلاً. ولكن الأزمة كشفت أمورًا أخرى إضافة لذلك من بينها انكشاف ضعف مستوى إعلامنا الدولي وعلاقاتنا العامة مع محيطنا الخارجي.
فالمملكة لم تكن تريد تصفية خاشقجي لأنه من الغباء فعلاً لأي جهاز استخبارات أن يسعى لتصفية معارض في قنصليته. ولو أرادت جهة ما أمراً كهذا لفعلته في أبعد مكان عن أي جهاز رسمي أو دبلوماسي. ثانيًا مهما كانت طبيعة العملية كيف تتم بدون تنسيق رسمي مع جهات ذات الصلاحية؟ فمن الواضح أن محاولة طمس معالم الجريمة كان لإخفاء الفشل عن المسئولين السعوديين قبل الإعلام الخارجي. وتبع ذلك تخبط إعلامي في التعامل مع الموضوع برمته، مما أتاح لكرة الثلج الإعلامية أن تتدحرج وتتضخم بشكل مهول أمام مرأى ومشهد العالم أجمع.
انكشافنا إعلاميًا أمام هذه القضية له على ما يبدو تراكمات سابقة أساسها إخفاقات إعلامية في رسم الصورة الصحيحة للمملكة، مما جعل العالم مستعدًا تلقائياً لتقبل كل ما يقال عن المملكة ومن أي مصدر إذا ما كان سيئاً وغير مقبول، وتجاهل المواقف الرائدة للمملكة والتركيز على السلبيات فقط، فصورة المملكة الإعلامية في الخارج مغلوطة إلى حد كبير ولا تعكس حقيقتها، وسبق وحذرنا من ذلك مرارًا عديدة. وتأتي للأسف بين الفينة والأخرى بعض التصرفات الخاطئة تعزز هذه الصورة السلبية وتضخمها. وقد لا يفلح اللجوء للمؤسسات الإعلامية وشركات العلاقات العامة الخارجية لتحسين هذه الصورة، فهذه الشركات لا تمتلك الروح الوطنية، وخدماتها وقتية، وتجتهد فقط بقدر ما يضخ بها من مال. والمطلوب هو تقوية المؤسسات الإعلامية الوطنية الداخلية واستقطاب الأكفاء لها بما يكفي لتراكم الخبرة الإعلامية لديها ويجعلها مستعدة للتعامل مع القضايا كافة، فإعلامنا يسير وفق الأساليب التقليدية التي فقد بعضها مصداقيته حتى في الداخل أيضاً. وكثير من مؤسساتنا الإعلامية ينقصها الدعم وهي أشبه ما تكون بالدوائر المغلقة التي تدور حول نفسها.
وتفتقر بعض جهاتنا الرسمية لأجهزة علاقات عامة مهنية تسيّر وفق أساليب علمية لا عاطفية، فعند وقوع جهاز ما في خطأ كارثي كما وقع مع خاشقجي يعمد الجهاز لاستباق الجهات الأخرى للإعلان عنه أولاً، وإذا تطلب الأمر الاعتذار تبادر به، ثم تحدد الخطوات التالية لإصلاح الخطأ، ويتبع ذلك خطوات أخرى للتحقيق والتفسير فيما بعد. فهذه من أبجديات العمل الإعلامي في العلاقات العامة، لكن ما حصل مع قضية خاشقجي هو العكس تمامًا، تأخر الإعلان لأسابيع كانت كافية لإحداث دمار كبير في علاقاتنا العامة الدولية.
قد تبقى هذه القضية معنا لبعض الوقت، والتغلب عليها ليس بالمستحيل لو تعاملنا مع آثارها بمهنية وعقلانية، ويمكن أن تكون مدخلاً لأسلوب تعامل جديد متطور في إعلامنا وعلاقاتنا العامة بحيث تتحول لورقة اختبار لمدى نجاحنا، فقد اتضح بما لا يدع مجالاً للشك أن أسلوب تعاملنا الإعلامي مع الخارج لا يواكب طموحاتنا ولا معطيات الرأي العام العالمي، فالإعلام جزء أساس من الأمن، والأمن لا يمكن أن يكون إلا وطنياً داخلياً وبأيدٍ وطنية.