د. محمد عبدالله الخازم
عانت البلدان الإسلامية ومنها بلادنا من موجة تشدد ديني انحرف في بعض مساراته ليتجه نحو التطرف وربما العنف بأشكاله كافة، وبالطبع نشأت ضمن ذلك مشكلات أخلاقية منها استغلال بعض الفئات لذلك التطرف ومنها تمييز وتهميش أو قمع بعض الفئات التي لا تسير وفق ركب التشدد ومريدية.. إلخ.
هذا التشدد بدأ الناس يتذمرون منه ولكن بصمت حتى بدأت الحكومات تلتفت له بعد أن أوجعها وأزعج شعوبها المختلفة وبعد أن عطل بعض مظاهر التقدم الطبيعية. ولأجل ذلك بدأت خطوات تفكيك هياكل التشدد بتقديم مبدأ أن لا وصاية لأحد على أحد ويفترض أن تكون مهمة الحكومات ضمان ذلك للناس. التشدد لم يكن مجرد ظاهرة عابرة أو فلسفة تحكم بل تحولت إلى وعاء اجتماعي ودخلت ضمن آليات التعليم والتربية والثقافة وغيرها من شؤون الحياة، لذلك من غير المتوقع التخلص من مظاهر التشدد دون غرس بدائل أو تقديم بدائل مناسبة. هذا هو التحدي الذي يوجه البلدان الإسلامية، على المدى الإستراتيجي وإلا فإنه سيأتي من يترحم على الصحوة حينما يجد بدائلها لم تزرع نماذج متقدمة متميزة.
أحد النماذج التي يدندن عليها الجميع تتمثل في ما يعرف بالوسطية وهي جميلة ظاهرياً، باعتبار فكرة الوسط تعني المنتصف والوقوف مسافة واحدة من طرفي المعادلة، فلا تشدد ولا إهمال تامًا. هذا المفهوم العام وهناك تفاصيل أكثر ليس المجال استيعابها، في تعريف المصطلح وتحريره لغوياً ودينياً، لكن الإشكالية هي في أي الوسطيات نختار، وهل الوسطية تعني ضمناً تقبل الآخر أم أنها مجرد سيطرة من الفئة نفسها ولكن بشكل غير متشدد؟
الدول الإسلامية تحوي مذاهب شتى وبعضها تحوي أدياناً متنوعة وليس مجرد مذاهب داخل الدين، كما أنها تحوي قبائل شتى ...إلخ، لذلك أجدني قلقًا من ترديد مصطلح الوسطية باعتباره منهجًا ضمن مذهب واحد، وأراه ما زال لا يحيد عن فكرة أحادية وربما إقصائية في النظر للآخر. سمعت هذا المصطلح في إعلام دول شتى بعضها تقمع مواطنيها من المذاهب الأخرى وفي الوقت نفسه تدعي الوسطية وكأن الوسطية هي مجرد نموذج يخص مذهبًا مسيطرًا واحدًا.
لذلك يأتي القلق من مصطلح الوسطية ويفضل البحث عن مكمل أو بديل له يتضمن قبول التنوع (التعدد) الآخر ومنحه حقوقه في الاحتفاظ باختلافه. الفكرة هنا تؤكد عدم استبدال التشدد المتطرف بوسطية هي الأخرى لا تتخلى عن قواعدها في رفض الآخر. قبول الآخر وقبول التنوع، يعني ضمناً عدم التمييز بناءً على القبيلة أو المذهب أو الدين أو الفئة وإنما بناء على معايير القانون والكفاءة، والوسطية والاعتدال تبقى مهمة داخل المذهب أو الدين أو الفئة، طالما هي تسند قبول الآخر وقبول التنوع، بل إنها تتحقق ضمنياً في حال قبولنا التعدد والتنوع. المجتمعات الحيوية تسير نحو تعدد الهويات وقبول التنوع ضمن المجتمع الواحد، بما يتطلبه ذلك من تطوير لدولة القانون لا دولة الأيدلوجية الدينية الواحدة، فهل تعي الدول الإسلامية ذلك ضمن الوسطيات التي تنشد تطويرها أم أنها تتحدث عن وسطية واحدة داخل فئة واحدة؟!