د.عبدالله مناع
فقدت الأوساط السياسية.. على مستوى العالم أجمع.. بـ (وفاة) المشير عبد الرحمن سوار الذهب.. يوم الجمعة - ما قبل الماضي - شخصية عسكرية، وزعامة سياسية.. من (الندرة)!؟ فلم تعرف سنوات الستينيات من القرن الماضي، وهي التي عُرفت بسنوات التحرر والاستقلال الأفريقي من قبضة الاستعمار: البريطاني، والفرنسي والإيطالي والألماني، والبرتغالي والبلجيكي.. والتي قادها بحكم الواقع الأفريقي آنذاك.. زعماء عسكريون - عرفوا فيما بعد بـ (زعماء الاستقلال) - كـ «سيكو تورى» في (غينيا) و»جومو كنياتا» في (إفريقيا الوسطى) و»نيكروما» في (غانا)، و»نيريرى» في (تنزانيا).. سياسياً عسكرياً عقلانياً فذا مثله؟! فلم تعرف القارة السمراء إن زعيماً من أولئك الزعماء - أو ممن (خلفهم).. إنه قد تنازل عن (سلطته) طواعية! بل شهدت مرحلة الاستقلال.. وما بعدها صراعاً مريراً على (السلطة) بين تلك الزعامات، لعل أبرزها.. كان الصراع في (الكونغو) بين (زعيم) الاستقلال الحقيقي (باتريس لومومبا).. و(المتسلط) عليه (تشومبئ).. الذي أودى في النهاية بحياة (لومومبا)، و(تقسيم) الكونغو إلى دولتين: (الكونغو برازافيل).. و(الكونغو كينشاسا)، أما (السودان) فقد كان جزءاً من مملكة مصر والسودان، وعندما قامت ثورة 23 يوليه.. أعطت الحق للسودان في اختياره: (الاستقلال) أو البقاء على وضعه السابق؟! فاختار (الاستقلال)، الذي ترأس أولى رئاسته: الفريق إبراهيم عبود.. أما التنازل عن (السلطة) والرئاسة، واعتزال العمل السياسي.. (معاً)، فقد شهده - ولأول مرة في القارة الأفريقية وغيرها - عهد المشير سوار الذهب.. بعد ثلاثين عاماً من الاستقلال الذي تم عام 1956م، وكان نتيجة لحالة (التقلب) السياسي.. الذي شهدته السنوات الأخيرة من حكم الرئيس جعفر نميري.. الذي أطال في حكمه لـ (السودان) من عام 1969م إلى عام 1984م، وهو ما دعا الأحزاب والنقابات والطوائف السودانية مجتمعة لـ (الثورة) عليه.. من أجل إقامة (حكم مدني) ديموقراطي.. حيث جرى انتخاب الفريق سوار الذهب لـ (رئاسة الجمهورية) لمدة عام واحد، يجرى خلالها انتخابات تشريعية.. ليسلم الحكم في نهايته لحكومة مدنية (منتخبه): وهو ما فعله سوار الذهب.. عندما قام بتسليم الحكم في نهاية ذلك العام.. لأول حكومة مدنية (منتخبة) برئاسة (الصادق المهدى) زعيم حزب الأمة.. ليكون بذلك أول رئيس عسكري يتنازل عن (السلطة) طواعية، ويقوم بتسليمها لأول حكومة متخبة آنذاك.. فيما يشبه المفاجأة السياسية غير المتوقعة...؟!
ولم يكتف المشير سوار الذهب بتنازله عن (السلطة) بعد عام.. بل أعقبه بـ (اعتزاله) العمل السياسي كله.. والتفرغ إلى العمل الوطني التطوعي في بناء المساجد، والمدارس والمستشفيات ودور الأيتام.. ليكون بذلك وكأنه إمام (الزاهدين) الرئيس (العسكري)، الذهبي لـ (السودان)... الذي لا يُنسى؟!
***
فلم ينس العالم - من قبل - أولئك.. العسكريين الأفذاذ من (نجوم) الحرب العالمية الثانية، الذين ملأوا سماءها وبحارها بـ (إنجازاتهم) العسكرية الباهرة.. حتى تحقق (النصر) لـ (جيوش) الحلفاء - الولايات المتحدة، والاتحاد السوفييتي وبريطانيا وفرنسا - على جيوش (محور) برلين وروما وطوكيو.. بقيادة الجنرال الأمريكي (دوايت ايزنهاور)، الذي كافأه الأمريكيون بعد الحرب بـ (انتخابه) ليكون الرئيس الرابع والثلاثين لـ (الولايات المتحدة الأمريكية).. لـ (دورتين) رئاستين في (البيت الأبيض) الأمريكي من عام 1953 - إلى عام 1961م، لتشهد دورته الأولى أعظم المواقف الأمريكية تجاه العرب وقضاياهم.. عندما وقفت أمريكا ايزنهاور إلى جانب دول (عدم الانحياز) بقيادة (الهند) ووزير خارجيتها السياسي البارع (كريشنا منون)، في رفضها العدوان الثلاثي على مصر، وفى مطالبتها بـ (انسحاب) قوى العدوان الثلاثي.. من سيناء ومدن القناة، الذي تحقق في شهر مارس من العام.. الذي يليه: عام 1957م، كما لم ينس العالم لـ (الجنرال) والأديب والفنان (شارل ديجول).. اختياره الوقوف إلى جانب (الحلفاء).. ليستعيد لـ (فرنسا) حريتها وأمجادها، لتعود بعد خلاصها من جنود الاحتلال النازي.. لسابق عهدها: (قبلة) الفنون والآداب، ومركز إشعاع كوني: لـ (الحرية) و(الإخاء) والمساواة.. كما لم ينس له.. فيما بعد وقفته من الثورة الجزائرية وهو يقمع الجنرالات الفرنسيين، الذين كانوا (يهرطقون) بأن (الجزائر) هي أرض فرنسية وليست أرضاً عربية...؟ كما لم ينس العالم (الجنرال): جوزيف بروز تيتو: أحد نجوم دول عدم الانحياز.. الذي استطاع - رغم ظروف حصاره - من قبل الاتحاد السوفيتي.. أن يخرج بعد الحرب.. بـ (يوغوسلافيا) دولة موحدة مستقلة تقف بين الشرق (الاشتراكي) و(الغرب الرأسمالي).. بينما يسعى لـ (رضاها) الشرق والغرب...؟!
فكيف لهذا العالم.. أن ينسى رجلاً (عسكرياً) بحجم المشير سوار الذهب، الذي ربما كان أحد القلائل.. الذين تمثلوا وصية النبي موسى عليه السلام: (اسبح قريباً من الشاطئ، واجعل مناط سعيك ما لم يفعله من قبل أحد)، ففعل ما لم يفعله أحد من قبل؟!
***
إن (العالم) لن.. ينسى هذا العسكري السياسي الفذ: المشير عبد الرحمن سوار الذهب، و(تنازله) الطوعي عن (رئاسة السودان).. لصالح إجراء انتخابات حرة نزيهة، ينتقل بها الحكم من نظامه (الرئاسي) العسكري السابق.. إلى (نظام برلماني)، تكون الكلمة فيه لـ (نواب الشعب) وليس للرئيس السوداني.. رغم إلحاح الأحزاب والنقابات والطوائف السودانية المختلفة عليه.. بـ (البقاء) والاستمرار!! ولكنه أصرَّ، ومضى في إنفاذ تنازله.. حتى تحقق، وتم تسليم حكم السودان إلى حكومة مدنية (منتخبة) برئاسة الصادق المهدى؟!
لقد كان المشير (سوار الذهب)، وبهذا الذي فعله هو (رابع) أولئك العسكريين العظام الذين أفرزتهم الحرب العالمية الثانية.. على تفاوت الأزمنة بينه وبينهم: رغم نشكيك البعض في أن تنازله.. لم يكن (زهداً) في (السلطة) بقدر ما كان خوفاً من فشل أكيد وسط الضوائق والمصاعب الاقتصادية التي كانت تحاصر السودان آنذاك، والتي ضاعف منها أولئك المهاجرين إلى السودان من جيبوتي واريتريا وغيرها، فكان قراره بأن يشترى (مجد) التنازل التاريخي بـ (حرج) البقاء فوق (كرسي رئاسة) محاط بـ (الأشواك) والمتاعب الاقتصادية التي لا حصر لها.. من تدني الإنتاجية السودانية.. إلى هبوط سعر الجنيه السوداني.. إلى تزايد الأفواه الجائعة المهاجرة من دول الجوار إلى السودان.
رحم الله المشير سوار الذهب.. فقد كان يستحق جائزة (نوبل) لـ (السلام) لجهوده - بعد اعتزاله العمل السياسي - في استمرار وحدة التراب السوداني ومقاومة دعاوى الانفصال التأمري التي كان يقودها (جون قرنق) بشراهة وشراسة، قبل أن يحصل على جائزة الملك فيصل لـ (خدمة الإسلام) عام 2004م، لخدماته (التطوعية) في بناء المساجد والمدارس والمستشفيات ودور الأيتام.
لقد كان المشير سوار الذهب (فريداً) بحق.. وكان عظيماً، بحق ويكفيه أنه صنع حالة من (التأسّى) حملت رئيس دولة جنوب أفريقيا العنصرية إلى (التنازل) وإجراء انتخابات وطنية عامة يشارك فيها لأول مرة أصحاب الأرض (السود) والمهاجرون -البيض - إليها.. ليفوز بها زعم الحرية الأكبر: الرئيس (نيلسون مانديلا)...؟!.