قبل حين من الدهر وبعد ثورة النفط الأولى، أولم أحد أفراد قريتنا بمناسبة زواجه، كان زواجه الثاني، وكان هذا الحدث مصابا جللا عند نساء قريتنا، فقد رؤي فيه خيانة لا تغتفر، فزوجته الأولى كانت في كامل عافيتها ولا تستحق ضرة تنافسها وتشق عليها.
حضرت العشاء مع والدي في خرق لبروتوكولات القرية وأعرافها، ففي مثل هذه المناسبات الجماهيرية الكاملة الدسم، يحضر رب الأسرة فقط أو من ينوب عنه!!
كان الحضور كبيرا بمقاييس ذلك الزمن، وكان العشاء يُنتظر بلهفة من الجميع.
وقت ليس بالطويل والعريس يدعو الجماعة إلى العشاء، ويا للمفاجأة، المائدة تزدان بمشروب جديد على الكثيرين، وجوده كان من علامات الترف والرقي الذي يُسمع عنه ولا يُرى، إنه (الببسي) في إصداره المعدني الأول كون الزجاجة أول ما صافح ذوق وذائقة الناس في ذلك الزمن الجميل.
بسمل الجميع. وما هي إلا دقائق معدودة ودوي علب الببسي أثناء تنفسها الصعداء يتصاعد في عنان السماء، الجميع يتسابقون لنيل متعة الصوت قبل الاستمتاع بطعم ذلك المشروب الذي ما زال في عرف رجلين مسنين مسكرا حراما نجسا ينبغي تجنبه!
أما أنا فقد وضعت عيني على علبتين طمعا في الفوز بالحسنيين، إلا أن والدي قد أخذ واحدة، والأخرى ذهبت لآخر يبدو أنه قد رأى في حضوري مخالفة لقوانين وأعراف القرية، فما بالك بالتمتع بذلك المشروب الأسمر الغريب وبعلبتين اثنتين.
أحد المدعوين يصيح بأعلى صوته قائلا.. (.. يحيى ياهو قسمي من أم شراب ذيه؟)
فيبتسم يحيى بعد أن لاحظ خلو المائدة منه ويقول: أبشر بالعوض يابو علي.
بدأ المدعوون التجشؤ في حركة إيقاعية بديعة، تعكس حالة الرضا التي انتابت الجميع وأنستهم تجشّم عناء الحضور في ذلك الليل البهيم، أما أنا فقد رمقت والدي بنظرة حارة، مفادها أعطني مما أعطاك الله، فما كان منه إلا أن مد لي بما بقي في تلك العلبة الساحرة التي في يده وأخذت أشربها بنهم لا حدود له، جعلني أغص غصة قوية أخرجت الزائد منه من أنفي، فما كان من والدي إلا أن سمى علي وضربني ضربة خفيفة على ظهري وقال لي:- (شوية شوية يا ولدي.)
لم أستسلم وأبقيت العلبة في يدي، غير مكترث بنظرات البعض لي بعد أن تحولت ملابسي إلى لون يثير الاشمئزاز.
غسلت يدي وجلست في المجلس بجانب والدي والعلبة في يميني، لا أشرب شيئاً منها، أريد أن أتلذذ بما بقي منها عند أمي وإخواني.
حان موعد الرحيل مشياً على الأقدام إلى منزلنا، وهنا أمرني والدي بأن أشرب ما بقي في العلبة، حتى لا يُفتتن بي إخوتي فيثورون عليّ، فرجوته أن أشربها في البيت ولكنه أصر على أمره، استعنت بالله وشربتها، حتى آخر قطرة، وبعدها أخذ والدي تلك العلبة وألقى بها جانباً ليخفي معالم تلك المتعة عن إخوتي، خاصة أن تلبية رغبتهم ومساواتهم بي، تحتاج رحلة طويلة إلى أبها والتي تبعد عنا أكثر من 30 كيلومتراً، في ظل خلو قريتنا من الأسواق والمتاجر.
أسوق هذه القصة لأحكي تفاصيل حياة كانت سائدة في قرانا، حياة بسيطة، كان فيها الببسي منتهى الترف، وكان الناس متساوين في كل شيء، اليوم تغيرت المفاهيم، بما فيها المتع، وتغيرت النفوس وصادر حب المال ووفرته كثيرا من تلقائيتنا وسعادتنا التي كان يكفيها رؤية أشياء بسيطة كعلبة ببسي في لخطة فرح عابرة.
العالم المادي له أنياب ومخالب، فهو يلغي الإنسانية وكل متطلباتها ووسائل حضورها ويصبح الناس يطلبون المزيد من المال لصناعة الكثير من الكماليات والتي تصب في خانة المتع، وما يلبث الواحد منا أن يسأم هذا الجديد وتتوق نفسه لجديد آخر يُطفئ شراهة متعته وشهوة ذاته التي أعياها تعب ملاحقة المختلف وأسقطها في فخ الرتابة والسأم.
السعادة في الرغبة، والرغبة رحلة بحث دائم عن سرور يريح النفس، ولكن عالمنا أصبح رحلة بحث عن عناء جديد نتوق إليه وما أن نحصل عليه حتى نسأمه ونبدأ رحلة بحث جديدة عن سعادة غائبة علنا نجدها في متعة وقد تكون وفي الغالب لا تكون.
** **
- علي المطوع