لا شك في أن ترجمة الأدب العربي إلى اللغات الغربية (أو غيرها من لغات العالم) موضوع جوهري شغل ولا يزال يشغل بال المفكرين والأدباء والمؤسسات في مختلف أرجاء الوطن العربي ولعل أول من أثار هذا الموضوع هو الشاعر العربي الكبير أحمد شوقي حين أخذ عام 1894 على المستشرقين إهمالهم للأدب العربي الحديث (في مصر) دراسة وترجمة في خطبة - كما يقول - ألقاها في المؤتمر العاشر للمستشرقين المنعقد في جنيف لاعتقاده آنذاك أن ما حققه الأدب العربي من تطور جعله في مستوى لا يقل عن سواه مكانة.
قد تكون منذ ذلك التاريخ تراث ثرّ مما نشر من الأعمال العربية المترجمة إلى الانكليزية (*) في العالم العربي بالإضافة إلى تراث غزير من الكتابات والتوصيات يحفل بشيء كثير من التكرار مداره أهمية ترجمة الأدب العربي وقلة ما ترجم منه إلى اللغات الغربية ولوم الآخر (أي الغرب) لتماديه في إهمال ترجمة الأدب العربي أو ميله إلى ترجمة ما يسيء إلى العرب والدعوة إلى تأسيس مركز عام للترجمة من العربية إلى اللغات الأجنبية ونشر فهرس تفصيلي لما ترجم من العربية كما جاء في توصيات الأدباء العرب قبل ستين عاماً (1958).
إن ترداد هذه الحقائق أو الملاحظات وسواها مما يتصل بترجمة الأدب العربي [نوعية الأعمال المترجمة – المعايير المتبعة في اختيارها – من يقوم بترجمتها – مدى تمثيلها للأدب العربي الحديث أو الآداب العربية كما يقول بعضهم – فاعليتها في تحقيق تفهم أفضل للعرب وثقافتهم – مدى نجاحها في اجتذاب أكبر عدد ممكن من القراء غير العرب – الشكوى من سوء ترجمة كثير من الروايات العربية المهمة] أقول إن ترداد هذه الحقائق أو الملاحظات أمرٌ لا مفر منه لأسباب عدة:
أولها الإحساس العربي المشروع بأهمية الترجمة وسيلة للتعريف بمنجزات العرب الحضارية والإبداعية وللحدّ من حملات التشويه المعادية لهم في الغرب عامة.
وثانياً غيبة الكشاف التفصيلي الذي يلم بما ترجم من الأدب العربي فعلاً إلى اللغات الأخرى وقد دعا إليه كثير من المفكرين والأدباء العرب.
وهناك سبب ثالث لا يقل أهمية عن السببين المذكورين ألا وهو افتقارنا – حسب اطلاعي المحدود – إلى دراسات منهجية تعنى بالطرف الآخر أي المتلقي: كيف يتفاعل مع الأعمال المترجمة وما هي آثارها الإيجابية أو السلبية.
أما إذا ركزنا انتباهنا على ما أنجز فعلاً في مجال ترجمة الأدب العربي الحديث منذ أواسط القرن الماضي حتى عام 2003 في ضوء مسح سابق قمت به شخصياً، فنلاحظ أن عدد الأعمال المترجمة في كتب مستقلة يبلغ حوالي «600» عمل كما نلاحظ أن للرواية والقصة القصيرة – لا الشعر – النصيب الأكبر، إذ ترجم منهما ما يزيد عن «330» رواية ومجموعة قصصية بالقياس إلى ما يزيد قليلاً عن مائة عمل شعري.(**)
إن الإحصائية المذكورة لا تشمل بطبيعة الحال مئات الأعمال التي ترجمت أو أعيد نشرها بعد 2003، ولكنها تدل على أن هذا التطور في حركة الترجمة من العربية إلى الإنكليزية هيَّأ للأدب العربي المترجم أن يتبوأ مكانة ملحوظة في الغرب ويعني ذلك – بكل وضوح – أن هذا الازدياد الكمي للأعمال المترجمة، مهما كانت التحفظات، أتاح للأدب العربي أن يتجاوز دائرة قرائه الضيقة وجعل الاطلاع عليه متيسراً لدى عامة القراء لاسيما عن طريق المكتبات التي تسعى إلى اقتناء الأعمال العربية المترجمة والمنشورة في الغرب كما تدل على ذلك النماذج التالية (الأرقام تشير إلى عدد المكتبات المقتنية حسب ما يرد في دليل الفهرس العالمي المعروف بـ WorldCat):
اللجنة (صنع الله إبراهيم) 411
كتاب التحولات الهجرة (أدونيس) 199
عمارة يعقوبيان (علاء الأسواني) 673
إنثولوجية الشعر العربي الحديث (تحرير سلمى الجيوسي) 722
إنثولوجية القصة العربية الحديثة (الجيوسي) 724
باب الشمس (الياس خوري) 718
إنثولوجية الشعر العربي الحديث (منح خوري وحميد الغار) 686
لماذا تركت الحصان وحيداً (محمود درويش) 180
ذاكرة للنسيان (درويش) 574
حكاية زهرة (حنان الشيخ) 676
موسم الهجرة إلى الشمال (الطيب صالح) 1005
قصائد حب عربية (نزار قباني) 271
رجال في الشمس (غسان كنفاني) 494
بين القصرين (محفوظ) 1846
قصر الشوق (محفوظ) 1443
السكرية (محفوظ) 1358
أما المترجمات المطبوعة في العالم العربي فلا تلقى إلا إقبالاً محدوداً إذ نجد مثلاً أعمالاً لا تقتنيها إلا مكتبة واحدة نحو «الصقر محلقاً» مجموعة شعرية لغازي القصيبي ترجمها نايف الكلالي و«بوح الوادي» لعبد العزيز البابطين ترجمة عبد الواحد لؤلؤة، أو مكتبات يتراوح عددها بين 5 و16 كما هو الحال في أمثال «ألف وجه للقمر» و«لو أننا لم نفترق» لفاروق جويدة، و«في البدء كانت الأنثى» لسعاد الصباح، و«ثمن التضحية» لحامد دمنهوري و«وقصائد مختارة» لفدوى طوقان وثلاث مجموعات شعرية لفاروق شوشة.
إن ما يدعو إلى التساؤل عن جدوى قيام مترجمين عرب بترجمة أعمال عربية إلى الانكليزية (أو غيرها من اللغات الغربية) ونشرها في بيئة عربية هو أنها نادراً ما توزع خارج العالم العربي أو أن تكون موضوع تعريف أو دراسة أو استشهاد في مطبوعات اللغة المستهدفة أي الانكليزية في هذه الحال. قد يكون للقائمين بها أهداف أخرى بينها التعريف بالأدب العربي الحديث على الصعيد المحلي، أو استخدامها كأداة تعليمية في إعداد المترجمين أو الاعتقاد بأن على العرب أن يتحملوا قسطهم من المسؤولية في ترجمة أدبهم إلى اللغات الغربية أو غيرها. ومهما يكن الأمر فقد يكون من المفيد أن تدرس هذه الظاهرة أو يعاد النظر فيها بعد تجربة قرن أو أكثر في ضوء ما حققته من نتائج في سبيل التعريف بالأدب العربي.
مشروع بروتا ومنهجه في الترجمة:
لدى مقارنة مشروع بروتا بما سار عليه المترجمون العرب نلاحظ التزامه بمنهج لا يؤكد انتماء المترجم إلى اللغة المستهدفة فحسب ( أي يستبعد المترجم العربي)، بل يشترط كذلك أن يكون أديباً “على أساس النظرية التي تقول بأنه لا يترجم الأدب إلا أديب في اللغة المترجم إليها” كما جاء في بيان تأسيس المشروع وقد أضافت الجيوسي إلى ذلك ما رأت من قصور في محاولات سابقة لترجمة الشعر العربي إلى الإنكليزية دون أي تخصيص قائلة عنها بأنها قصرت لأحد الأسباب الثلاثة التالية:
1- لأنه قام على الترجمة عرب كانت العربية لهم اللغة الأم، ولكنهم كانوا يتقنون الانجليزية فظنوا أنهم قادرون على امتلاك ناصية التعبير الأدبي فيها وهذا لا يتسنى عادة لغريب مهما أتقن لغة الحديث والكتابة التحليلية والبحث. فلغة الأدب تختلف جذرياً عن لغة البحث والتحليل.
2- لأنه قام على الترجمة عرب يعرفون الانجليزية واستعانوا ببعض الناطقين بها دون أن يكون هؤلاء أدباء أو شعراء في لغتهم، ولذا فإنهم لم يتمكنوا من تحويل المصطلح الأدبي العربي إلى مصطلح أدبي إنكليزي لأنهم أنفسهم لا يملكونه.
3- أو لأنه قام على الترجمة أكاديميون مستعربون يهمهم في الدرجة الأولى أداء المعنى قبل كل شيء.
من الواضح أنّ الجيوسي أرادت أن تتجنب ما يؤخذ على المترجمات العربية السابقة من تقصير بإشراك عدد من الشعراء والكتاب الناطقين بالانكليزية (كلغة أم) في عملية الترجمة وذلك من أجل أن تضمن أعلى مستوى أدبي ممكن للعمل المترجم أو كأدب «يتمتع في اللغة المترجم إليها بمزايا الأدب الرفيع كما يتمتع به النص الأصلي بالعربية» وفقاً لما جاء في بيان التأسيس.
وقد اتبعت خطة لمسار الترجمة في مرحلتين كما تقول:
«الأولى: يعهد بالنص المنتخب أولاً إلى مترجم قدير يتقن اللغتين ويتمتع بحاسة أدبية مرهفة فينقله إلى الانجليزية وأدقق أنا في صحة الترجمة بالتشاور معه.
ثم المرحلة الثانية يعهد بالنص المترجم إلى أديب أو كاتب معروف إن كان نثراً وإلى شاعر إن كان قصيدة ممن كانت لهم اللغة الانجليزية هي اللغة الأم فيصقل النص أو يعيد كتابته ويحرره من روح الترجمة وضعفها”.
ويمكن اعتبار دورها كوسيط مرحلة إضافية أي يصح أن توصف خطتها في الترجمة بأنها في الواقع ثلاثية الأطراف: المترجم القدير المعروف بكفاءته في العربية والانكليزية ودورها كوسيط والكاتب أو الشاعر الانكليزي.
وهنا لا بد أن يذكر بأن مشاركة أديب أو شاعر معروف في اللغة المستهدفة في ترجمة الأدب العربي الحديث ليست حدثاً جديدًاً إذ لدينا أمثلة عليها تسبق مشروع بروتا وحسبي أن أذكر منهاً عميد المترجمين دنيس جونسون-ديفيز الذي بدأ حياته روائياً وكاتب قصص قصيرة أو الشاعر الأمريكي صموئيل حزو الذي ترجم أدونيس أو الشاعر النيوزيلندي آين ود Ian Wedde الذي تعاون مع فواز طوقان في ترجمة محمود درويش في السبعينيات من القرن الماضي وهناك أمثلة أخرى.
غير أن تجربة بروتا أو الجيوسي تتميز بعدة خصائص: اعتمادها خطة مدروسة في اختيار النصوص وتغطيتها الواسعة للأدب العربي الحديث بمختلف أنواعه (الشعر- القصة القصيرة والرواية - المسرحية - السيرة) وفي مختلف أقطاره وجهدها الجماعي المتتابع أكثر من عشرين عاماً منذ 1982 حين ظهر أول أعمال بروتا «المتشائل» وفرادتها في إشراك عدد كبير نسبياً من المترجمين الأكفاء وذوي الخبرة والتخصص في الدراسات العربية بالتعاون مع مجموعة من الأدباء والشعراء الناطقين بالانكليزية والمعروفين بمنجزاتهم أو اسهامهم في ترجماتهم من لغات أخرى بالإضافة إلى التزامها عادة بتقديم الأعمال المترجمة في مقدمات وافية تعين القارئ على استيعاب أو تذوق ما يقرأ من النصوص.
ليس هناك أي شك في أن الجيوسي وفقت إلى مدى بعيد في اتباع ما اختارته من نهج خاصة في الإنثولوجيات الكبرى التي تدل على أهمية المشاركة الجماعية من المترجمين والأدباء مما ضمن لها انتشاراً واسعاً ينعكس في عدد المكتبات العالمية التي تقتنيها كما تشير الأرقام المقتبسة من دليل الفهرس العالمي (تاريخ الاقتباس 27-8-2018. الأرقام عرضة للتغيير):
1. القصة العربية الحديثة. (عدد المكتبات المقتنية 1983).
2. ما وراء الكثبان:الأدب السعودي الحديث (1036 مكتبة).
3. أدب الجزيرة العربية الحديث. (901 مكتبة).
4. المتشائل لأميل حبيبي. (796 مكتبة).
5. الشعر العربي الحديث. (785 مكتبة).
6. الأدب الفلسطيني الحديث. (732 مكتبة).
7. المسرح العربي الحديث. (54 6 مكتبة).
8. الحرب في بر مصر ليوسف القعيد (591 مكتبة).
9. مسرحيات عربية قصيرة. (471 مكتبة).
10. كتاب الحب وقصائد أخرى لنزار قباني (225).
ومن نافلة القول إن أهمية مترجمات بروتا الأدبية لا تقاس بسعة انتشارها أو توافرها عالمياً فحسب بل تتجلى كذلك فيما تتلقاه من صدى لدى قرائها وما تتركه من أثر في الدراسات ذات العلاقة أو مشاريع أخرى لترجمة الأدب العربي الحديث مما يتطلب مسحاً موثقاً للمراجعات والتعليقات التي كتبت عنها أو اقتباسات بعض نصوصها وهو غير متيسر حتى الآن حسب اطلاعي. إن مسحاً كهذا جدير بالتحقيق. ولكني أستطيع القول – بحكم متابعتي لما ينشر عن الأدب العربي الحديث في المطبوعات وبعض المواقع الأمريكية - أستطيع القول بأن ما قرأت عن الإنثولوجيات بصفة خاصة يشيد في معظمه بمنشورات بروتا (أكثر من عشرين عملاً) ويستشهد بإسهامها الإيجابي في التعريف بمختلف مراحل الأدب العربي الحديث وتمثيلها الموسوعي لأهم منجزاته وأعلامه بالإضافة إلى تأكيد المشروع على الجانب الإبداعي للترجمة ودور المترجمين من أبناء اللغة المستهدفة.
... ... ...
(*) راجع كتاب المؤلف: الشعر العربي الحديث المترجم إلى الإنجليزية: مقدمة وببليوغرافية. طنجة: جامعة عبد المالك السعدي 1993.
(**) انظر Modern Arabic Literature in Translation: A Companion. London: Saqi, 2005.
أود الاعتراف بان القسم الأول من هذا المقال يعيد مع بعض التعديل ما ورد في مقالي “التلقي الأمريكي للأدب العربي: 1950-2008” مجلة نزوى العدد 59/2009. ص ص:13-26.
** **
أ.د. صالح جواد الطعمة - عضو المجلس الإداري لمشروع بروتا