د. إبراهيم بن محمد الشتوي
تقوم النقائض في أغلبها على التهاجي، بأن يقول أحد الشعراء قصيدة في ذم رجل أو جماعة من الناس، فيردون عليه السيئة بمثلها، سالكين الأسلوب عينه الذي سلكه الشاعر، فتأتي القصيدة على الوزن والقافية التي جاءت عليهما السابقة، وربما تجاوز الصلة بينهما ذلك ليقف الشاعر اللاحق على الصفات التي أثبتها الشاعر الأول فينقضها واحدة واحدة، ويثبت عكسها له، فتأتي قصيدته وكأنها استجابة للقصيدة الأولى تحاكيها في البناء والموضوع، والأفكار.
وكنت أظن أن هذه النقائض بما أنها شعر، تنطوي على جانب كبير من الفن، والأدب والجمال، فتحمل صورة مضحكة، أو سخرية مرة، أو نحو ذلك على طريقة ما اشتهر منها من أبيات كقول جرير:
والتغلبي إذا تنبه للقرى
حك استه وتمثل الأمثالا
أو قول الأخطل:
قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم
قالوا لأمهم بولي على النار
ولا تجودي بكل البول مسرفة
ولا تبولي لها إلا بمـقـدار
يقول المبرد: يقال: إن جريراً توجع من هذا البيت، وقال: جمع بهذه الكلمة ضروباً من الهجاء والشتم، منها البخل الفاحش، ومنها عقوق الأم في ابتذالها دون غيرها، ومنها تقذير الفناء» (الكامل:3/1406).
لكنني حين رجعت إلى النقائض أبحث فيها ما يصلح لأن يكون مادة للدراسة وجدت أن ما هذه الأبيات فيها إلا كالشعرة السوداء في الثور الأبيض، وأن غالب القصائد هي إلى السباب المباشر أقرب منها إلى الشعر وأدواته كقول جرير:
أما البعيث فقد تبين أنه
عبد فعلك في البعيث تماري
أو قوله في هجاء الفرزدق:
ليست كأمك إذ يعض بقرطها
قين وليس على القرون خمار
ثم تذكرت ما قاله بعض مؤرخي الأدب في حديثهم عن النقائض أن أهميتها تعود إلى ما فيها من معلومات عن أيام العرب وأخبارهم وقبائلهم قبل الإسلام، بناء على أن الشعراء كانوا يعودون إلى تلك المثالب ليبنوا عليها أهاجيهم، أو مفاخرهم، فكأنها الديوان الذي جمع ما لم يجمع من أخبار الأولين، ويغطي النقص في حرص العرب على تدوين تاريخهم القديم تدويناً تفصيلياً، وكأن ما ذكره هؤلاء هي القيمة الوحيدة لهذا الشعر، وهي المنطلق في الحديث عن جمالياته، بمعنى الكشف عن جانب الجمال في هذا الشعر.
بيد أن معنى جماليات شعر الهجاء لا تعني عند المتأخرين من النقدة البحث عن وجوه الجمال فيه، وإنما هو بحث في ماهية الشيء وتكوينه، باعتبار أن الجماليات هي ترجمة أخرى للبوطيقيا (الشعرية)، وسؤال الشعرية هو عما يكون به الشعر شعراً، والمقالة مقالة، ومن هنا يكون البحث عن جماليات القبيح هو عما يكون به القبيح قبيحاً، بمعنى البحث عن العناصر التي إذا توافرت في الموضوع أخرجته من دائرة الحسن إلى دائرة القبح، فالجماليات بهذا المفهوم ليست في الحقيقة جماليات ولكنها -ربما- قبحيات.
ولأن القبيح هنا هو شعر الهجاء فإن قبحه يكتمل حين يكون هجاء كاملاً، ولا يكون كذلك إلا حين يوجع المقول فيه، ويبلغ غايته من إيذائه، كما هو في أبيات الأخطل السابقة التي توجع منها جرير وكأبيات الحطيئة المشهورة التي دفعت الزبرقان إلى التظلم لدى عمر بن الخطاب كما تقول القصة المعروفة.
والناظر في هذه الأبيات يرى أنها لم تكن سباباً مباشراً، ولا وقوعاً بالأعراض، والأمهات بقدر ما تقوم على صورة فنية جميلة تتضمن الوصف بالشح وغلظ الطبع، أو سخرية وهزءاً يمكن أن يحمل فيه القول على أكثر من وجه كما حاول عمر بن الخطاب أن يفعل حين أنكر معنى الهجاء في البيت وأبيات النجاشي الأخرى.
وفي هذا المثال تتلاقى الجماليات من الجمال بالقبحيات كما قلنا من قبل لأن القبح وهو اكتمال آلة الهجاء وهي قدرته على إيلام المهجو وإيذائه، لا تتم إلا من خلال قدرة الهجاء على التأثير على المتلقي، وهذا التأثير لا يتم إلا عن طريق أن يتوافر للقول شروط التأثير الفنية الجمالية، وهذه حالة خاصة لشعر الهجاء.
ولأن هذا اللون من الهجاء ليس هو الغالب في النقائض كما أسلفت القول من قبل، وإنما الغالب أنها شتائم مباشرة لا تحمل أدنى جمال، ما يجعلها غير قادرة على تأسيس منظومة شعرية فن الهجاء في التراث العربي، فإن هذا السؤال يظل مفتوحاً عن البحث فيما يجعل الهجاء هجاء أو كما هو في عنوان المقالة عن البحث عن جماليات القبيح.
والأمر المهم هو أننا استطعنا أن نحدد القول في جماليات القبيح بأنه البحث في مكونات شعر الهجاء للوقوف على العناصر الدقيقة التي تجعله فناً راقياً بعيداً عن السباب والشتائم، مع أنه يؤدي الغرض منه في إيقاع الأذى بالمهجو والألم في نفسه، وهنا يمكن أن نقول إن السخرية، والاستهزاء، والصورة الكاريكاتورية المضحكة، وبناء العبارات على معاني ووجوه مختلفة هي أبرز هذه العناصر.
ولأن هذه العناصر ليست كثيرة لدى الشعراء جميعاً في فن الهجاء، فإننا يمكن أن نضيف الآن إلى ما ذكره مؤرخو الأدب السابقين عن أهمية النقائض أهمية أخرى ربما تعد في جمالياته في المفهوم العام، وهي أنه يعطي خطاطة مقابلة للصفات الحسنة تبني الصفات المذمومة، ويمكن من خلالها إدراك صورة أخرى عن منظومة القيم العربية القديمة بناء على المقولة القديمة بضدها تتبين الأشياء.