بين الميتافيزيقيا والإنثروبولوجيا يُولد متثيقف حَفِظ تلك المصطلحات وما شابهها، ولم يعِ ما وراءها وإلى ماذا ترمي. وحين استوقفتني تلك الظاهرة وطفرة المتثيقِفين على الساحة المجتمعية آثرت سبر غور الأصل في معنى الثقافة، فهل هي سلوكٌ مجتمعي؟ أم سمة فردية ناتجة من سلوكيات معينة ينتهجها الإنسان؟ هل هي أسلوب للتفكير أم شكل للسلوك والعادات؟
للثقافة تعاريف كثيرة، اختلفت من مفكرٍ إلى آخر على مر العصور؛ وهذا دليلٌ على أن الثقافة متغيرة بتغير الزمان والحضارات والبشرية.
من أشهر التعاريف للثقافة ما ذكره البريطاني إدوارد تايلور؛ إذ قال: إنها ذلك الكل المركب الذي يشمل المعرفة والمعتقدات والفن والأخلاق والقانون والأعراف والقدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان باعتباره عضواً في المجتمع.
وعرّفها الفيلسوف الألماني هيردر بأنها: «تربية وتنمية متضامنة لقدرات الإنسان».
أما المفكر العربي علي الوردي فرأى أن الثقافة هي طريقة وأسلوب ومنهج حياة، وركز على أن المثقف هو الشخص المتقبل لآراء غيره، والمنفتح على التحولات الفكرية، والنائي بنفسه عن الصدامات الجدلية. وقد اتضحت نظرته حول التجديد الثقافي وموقفه من المحافظين على الثقافات القديمة في كتابه (مهزلة العقل البشري) حيث قال:
«والمجتمع الذي تسوده قوى المحافظين يتعفن كالماء الراكد. أما المجتمع الذي تسوده قوى المجددين فيتمرد كالطوفان حيث يجتاز الحدود والسدود ويهلك الحرث والنسل. والمجتمع الصالح ذلك الذي يتحرك بهدوء فلا يتعفن ولا يطغى؛ إذ تتوازن فيه قوى المحافظة والتجديد؛ فلا تطغى إحداهما على الأخرى».
وقد كان مقياس الوردي للمثقف ليس بمقدار ما يمتلكه من كمية معلومات ودرجات أكاديمية بل بما يمتلكه من أسلوب ومنهج علمي، يقوده لنقد ذاته ومن ثم تقبُّل الآخرين، وأن يكون مرنًا في تقبُّل الآراء، سلسًا في حواره؛ فالحقيقة متغيرة، ولا شيء ثابت.
من هذه المفاهيم كأمثلة يتضح أن الأصل واحد وإن اختلف الظاهر؛ فمن أراد الثقافة لا التثيقف عليه أن يبدأ بفكره، ويتقبل فكر غيره، وألا يغلق حجرات عقله.
** **
- حنان القعود
@hananauthor