تأتي الطبعة الأولى في العام 2017 في 319 صفحة من القطع المتوسط وعشرة فصول من إصدار مركز الأدب العربي للنشر والتوزيع, مع غلاف أنيق وإهداء لافت من المؤلف لوالديه وإلى المدينة المنورة التي قال عنها الكاتب إنها أم المدائن التي وهبته الكثير, وإلى أفراد من أسرته ذكرهم بالاسم. عتبة العنوان تفتح ذهن القارئ للتساؤل عن كنه وماهية هذا الشيء التي أتت الإجابة عليه لتضفي مزيداً من الغموض, وهنا التحفيز الأول الذي يجعل الشغف يمد يده ويقلب الأوراق, ثم ما يلبث أن يتورط في الحبكة و محور السؤال الذي سيطر على مسار الحكي ولازم الأحداث في نشأتها وتطورها في نسق تصاعدي دائري ما إن تبدأ دائرة وتنهي وإلا تفتح في دائرية أخرى أكبر وأعمق ويظل القارئ ينقاد ورائها من بعيد لبلوغ الغايات والنهايات المفتوحة.
يؤسس النص ومن ورائه الكاتب شبكة العلائق الاجتماعية التي تكون عالمه الخاص بتؤدة وروية كما ناسج شباك الصيد الخبير الملم بكل صغيرة وكبيرة في فضاءات وبحور السرد, فيبدأ خيط السرد يتمدد من بعيد بنظم بنيوي ولغوي محكم تزينه لغة جزلة, نقتفي معه أثر الشخصيات في تخبطها على تضاريس الحياة القاسية التي عاشتها منذ النشأة وحتى ساقتهم الدروب نحو طيبة الطيبة المدينة المنورة مهوى الأفئدة.
يمتاز النص بتعدد الأصوات وطرائق السرد وتقنياته المختلفة من راوي عليم, منولوج, فلاش باك, تداعي حر وغيرها, ثمة شعور ينتاب القارئ أن الشخوص في حركتها خلال النص يجذبها خيط قدسي غير مرئي شفاف ولكن سرعان ما يتكشف لنا أن ذلك الخيط ما هو إلا طعم فيه يكمن السؤال والإجابة, يلقيه الكاتب ببراعة, وحالما يلتقطون ذلك الطعم يستشعرون تأثيره القوي على أجسادهم المنهكة المتعبة وتستسلم أرواحهم لتياره الجارف الذي لا يقاوم, فهذا أحمد مالّمدو, شوكت باشا, عثمان, سعيد أبو فكس, أبو أحمد, آسيا أم ماجدة, أم يوسف, الحجة مريم, الهانم وغيرهما خلق كثير, أتوا من فجاج الأرض, منهم الفار بعمره من حمم ثأر يغلي و المتردي بخيبته من وطأة حب أثقل كاهله و الهارب من شظف العيش وعدم الانتماء والذي مات ذوه في الحج وتيتم في غربة وهو طفل صغير.
قدموا إليها وما زالت أعينهم تكتحل ببقايا شوق وحنين لحياتهم السابقة, وحالما تطأ قدم الواحد منهم ترابها الطاهر ويكحل عينيه بقبتها الخضراء, و يتنشق عبير روضتها الشريفة تلك القطعة من الجنة, يلهج لسانه بالدعاء المنسي والمكتوم ويسلم على أشرف خلق الله, يصاب بحالة من الانجذاب الروحي لا فكاك منها, فيظل جسده يدور في أزقتها وحواريها وسوحها وعينه على ذات النقطة المركزية,يصبح جرما سماوي صغيرا هائما في مدارها الروحاني بلا حول ولا قوة.
تلك المدينة الواحة التي نبتت بيوتها من بين الشعاب الصخرية والجبال البازلتية والكثبان الرملية, في أرض خصبة طيبة مجبولة على النصرة حينما يقسو الزمن ويتنكر الحبيب و يتفرق الأهل والعشير, مدت يديها كأم رؤوم وضمت الكل في حضنها بلا تمييز وهي تنشد: طلع البدر علينا نشيدها الوطني الخالد بصوت مهيب, وحينما يطوي صوت الأم الحاني المسافات ويهدم جدر المدى ويهشم قلاع العاطفة, وينفذ من تلك الأرواح المتعبة والأجساد المنهكة إلى لب القلوب كشعاع من نور, يهب الجميع, يرددون معها كلمات النشيد وهم يضعون قبضة أيديهم على أفئدة شاقها الهوى, فكأنها هوت في نبع مقدس وانغمست فيه, وأخذت تعب ملء السمع والبصر وجميع الحواس ولم ترتوي أبدا.
من كل ذلك يستمد عالم النص كينونته من المكان المقدس والفضاء المفتوح وصيرورة الأحداث في حقبة تمتد من نهاية القرن التاسع عشر وحتى الألفية الجديدة, ومن الموروث الثقافي الذي حمله كل فرد في جعبته, انصهار ذلك الخلط العجيب حتى صار عجينة ناعمة لينة هينة تشكّل منها ما يمكن أن نطلق عليه إنسان المدينة المنورة في وعاء المجتمع الحجازي الجامع, يتمظهر ذلك في اللهجة والسمت وطريقة اللبس والنطق ودلالات الألفاظ والأسماء بما فيها أسماء الحواري والأزقة والأربطة وأنواع الأكلات وحتى طقوس الزواج والدفن.
تؤسس الرواية عالمها الخاص للحياة في فضاءيها الزمكاني المستمد من الواقعية السحرية, تسبر غور الشخوص, هويتها وثقافتها وموروثها في تلك الفترة البعيدة وحتى عصر النهضة والانفتاح على العالم الخارجي, بعمل مسح كمرائي دقيق يهتم برصد الجزئيات الدقيقة والتفاصيل الصغيرة للحواري والأزقة والشوارع والبيوت ولحركة الفرد داخل المجتمع واستقراء عميق لدواخل النفس البشرية, تخلخل الثوابت وتنزع الأختام في سبيل الوصول إلى حقيقة الكائن الإنسان القابع في الدواخل, تلبسه ثوب الخيال و تبرزه للعوالم الخيالية المفتوحة على مجمل الواقع الذي عاشه الأبطال سوى كانوا في القاع أو على السطح أو في الجحور و الكهوف والشقوق.
تقدم ذلك الشريط السينمائي التاريخي في دراما واقعية ساحرة كي يشاهده الجيل الجديد الذي فتح عينيه على الطفرة والنهضة ليرى كيف كابد أجداده وآباؤه الحياة, كما أنها تمثّل حلم جميل يذكّر الجيلين القديم والوسط بالحياة التي عاشوها في ذات الحواري القديمة داخل بيوت اللبن والطين المعروشة بدفء الأسرة الممتدة والمفروشة برمل الحياة الناعمة البسيطة, تكحت قشور الحياة الحديثة المصطنعة وتزيح سخام الجفوة التي تراكمت خلال عقود على سطح القلوب, تصقلها وتجليها, فتعود كما كانت براقة نابضة, تشعل فيها جذوة الشوق وتفجر كوامن النستلوجيا والحنين, فيزيد ارتباطها بهذه الأرض وبهذا الحب الأبدي للمدينة الطاهرة المنورة.
وسط كل هذا ينشأ محسّد الشخصية المحورية ذلك الطفل الوديع الخجول والصبي المشاكس والمراهق المتمرد والشاب الممتلئ بالثقة والطموح, والذي لا تملك إلا أن تحبه وتتعاطف معه وهو في غربته وحنينه الدائم والذي هو امتداد جيني وراثي ورثه عن أجداده سعيد أبو فكس وعثمان, وأم يوسف وآسيا أم ماجدة وكأن الأستاذ عبد الله وهو يتتبع أثر سعيد من المغرب وعثمان من نيجيريا حتى استقر به المقام في قرية من قرى الجزيرة بالسودان, كأنه قرأ تاريخ الهجرات القديمة من بلاد المغرب العربي وغرب إفريقيا إلى الحجاز مروراً بأرض السودان وما أفضت إليه تلك الهجرات من علائق ووشائج أدت لارتباطات اجتماعية وأسرية تشكّلت منها سمات الشخصية السودانية التي تمتد جذورها إلى حضارات قديمة قدم النيل, ونلحظ هنا الشبه الكبير في كثير من تفاصيل الحياة في السحنات واللون واللهجة والعادات معا لمجتمع الحجازي الذي هو خليط عجيب, يتمظهر ذلك في كتابات عبده خال ورجاء العالم وقد صورا ذلك ضمن الحراك المجتمعي ككل وليس بمعزل, إلا أننا هنا نجد أنفسنا أمام شخصية محورية نهض على أكتافها محور السرد و تشربت كل ذلك وانغمست فيه بكلياتها, وقد نجد مسوغاً علمياً يتحقق اشتراطه هنا وفقا للمقولة الناقدة أن العمل الأول للكاتب لا بد أن فيه شيء من سيرته الذاتية, ولا غرو في ذلك, فروح الكاتب عبد الله الطيب موجودة في محسّد وهي التي تبثه الطاقة لسرد التجارب والقصص التي عاشها وهي التي ألهمت قريحته الشعرية وهو في غربته الروحية وهو في حضن الوطن بالمنطقة الشرقية وعندما طار إلى الصين, فتدفق أشعاراً عذبه ممزوجة بالوله والحنين لحبيبة مدينة هي المدينة المنورة ولحبيبة أنثى هي سمر شقيقة صديق طفولته حسن وكأنه يستلهم قول الشاعر السوداني سيف الدين السوقي وهو يناجي معشوقته مدينة أم درمان في قصيدته زمن الأفراح الوردية.
فأنا يا سمراء الصحراء
هذا قدري
أن أعشق أنثى عاصمة
تلك المحبوبة أم درمان
فالمدينة التي احتضنت أجداد محسّد وشهدت ميلاده وإعادة صياغته وبثت فيه الطمأنينة والسكينة, فعلت وتفعل ذلك كل حين مع كثيرين لتعيد تشكيل الشخصية و تقدمها كفرد صالح في مجتمع ينشد الطهر والفضيلة. ثمة إشارة ذكيه هنا من الكاتب إلى حج أبي فكس و قبول المدينة له اشتراطا إلى قبول توبته من ذنب قتل صديقه البشير في بلدته في المغرب والذي كان قد أثقل كاهله سنوات طويلة وجلب له الكوابيس ليلا مما حدا زوجته لدهن الفكس على صدره حتى صار الزقاق يعرف باسمه (زقاق الفكس).
وكأن المدينة المنورة تملك عيناً إلهية فاحصة تفرز الشقي المعطوب وتطرده عنها (الفنقوصي و صمدوا وشلتهما) و قد لا تقبل حتى بجسد ملوث أن يدفن في ترابها ناهيك أن يسكن في بقيع الغرقد الذي يحوي رفاة طاهرة, وإن قبلت بجوار الصحبة وفقاً لاشتراطات إلهية لا دخل فيها لمكانة أو جاه أو سلطان أو حسب أو نسب كما حدث مع جنازة الرجل الغني وجنازة أحمد ابن أبي أحمد صديق عثمان وسعيد أبو فكس, فتصبح بذلك المدينة المنورة هنا هي محور الحياة في قلب محسّد, وتسكنه وليس هو من يسكنها, وربما كان ذلك شأنها مع سائر أهلها فينشأ ذلك الارتباط الوجداني الإلهي الذي لا يفلح حتى الموت في افتكاكه وتخليصه, فلا يقبل الجسد الطاهر والا يفنى في ترابها. يقول عثمان لحفيده محسّد (أنظر خارج الحرم يامحسّد لعلهم امتلكوا المكان مقابل ملايين لا حصر لها وبنوا عليه تلك الكائنات الخرسانية الكبيرة, لكنهم لميسكنوه ولن يسكنوه فهو لزوار المصطفى, فلا شرف لهمبه). إلى أن يقول ( فإنا لنحن المجاورون, وإنا لنحن الصافون في مسجد المصطفى, حارتنا هنا داخل الحرم, زقاقنا هنا, حياتنا هنا, مماتنا هنا, وسكنانا هنا بعد الموتمع الصحابة والأخيار).
يفتح النص التساؤلات حول كنه ذلك الارتباط الروحي والوجداني ما من قوم ارتبطوا روحيا ووجدانيا بمدينتهم مثلما ارتبط أهل المدينة بتلك البقعة قد تكون الإجابة بين ظفرين والأرواح نشرئب إلى القبة الخضراء و يهفو الفؤاد و يختلج ويتلو اللسان الصلوات المحمدية لذكر ساكنها و تعبق ريح الجنة من الروضة الشريفة, ولكن كل ذلك لا يشمل من لم تخطب المدينة المنورة وده, يحيلنا ذلك مرة أخرى إلى عينها الفاحصة وإلى عتبة العنوان وذلك الغموض الموحي.
يحفل النص بتاريخ المدينة المنورة, كما لا يغفل مظاهر الطفرة في بداية السبعينات والتحولات الكبيرة التي طالت المجتمع السعودي والمجتمع الخليجي ككل, لاسيما في الجوانب الدينية والتعليمية والثقافية والسياسية وإن كان الراوي العليم ألجم الشخوص بعض الشيء, ولكنه فتح الباب لدخول النور ولعله حين ينتقد سلوك بعض الشخصيات الجانحة يكرس لمفهوم الدين الإسلامي الذي يدعو إلى نبذ العنف والتشدد وانتهاج الوسطية في كل شيء, رأينا كيف كان مصير تلك الشخصيات التي عانت خللا في التربية من قسوة مفرطة من الأبوين أو من المجتمع أو ضغوطات الحياة (الأكتع وصمدو وبقية الشلة) وأخف قدراً صديق طفولة محسّد علي إبرة الذي فقد عقله, دفع بهم كل ذلك إلى الارتماء في حضن الفكر المتشدد والنهج المتطرف الذي نهايته معروفة. لكن بالمقابل ثمة من يقول إن النهج المتطرف استقطب حتى أبناء الطبقة الراقية الذين ينعمون بالحياة! بالمقابل يسوقنا محسّد معه في رحلته التعليمية من المدينة إلى جامعة الملك فهد للبترول وإلى الصين لاكتساب الخبرات بما يوازي النهضة التعليمية والعمرانية وبناء الفرد السوي الذي تنشأ عليه الدول التي تريد أن تنهض.
تتجلى قيمة العمل عندما أحس محسّد بغربة روحية وهو عائد للتو من غربة جسدية في الصين وهو يرى مدينته التي أحبها قد تغيرت عليه... في هذا الجزء من النص:
أطرق عثمان قليلاً ولم يتكلم فقط أخذه من يده وسار به إلى بقعة يعرفها جيداً داخل المسجد النبوي في الجهة الشرقية قرب باب الملك عبد العزيز توقف عندها هناك حدثه بصوت عميق يشيء بعراقة الماضي (ما هذا الذي تقول يا محسّد؟ إنما ولد أبوك في هذه البقعة, أنظر في هذه الناحية من الحرم, حارة الأغوات, وهناك زقاق ديار العشرة المبشّرين بالجنة، حيث كان رباط ستنا مكة, فيه مات صديقي مالّمدو. هنا كان بيتي وبيت جدتك فأي شرف تريد؟).
ستنظر الإنسانية يوماً إلى أن هذا العمل الباذخ قد حفظ تاريخ المدينة المنورة وتراث منطقة الحجاز من الاندثار, حيث حفلت الهوامش بالعديد من المسميات التي يعتد بها في الثقافة الشعبية الحجازية.
** **
جمال الدين علي - قاص وروائي... السودان