لم يتناول موضوع «الأسطورة» من منظور «مادّي» في العالم أجمع إلا القلة القليلة من الفلاسفة والكتاب عبر التاريخ. وذلك لأن المنظور المادّي أو العلمي يربط الأسطورة وتطورها بالتطور الاجتماعي، وهذا يتطلب التجرّد من المفاهيم الفلسفية السائدة.
الأسطورة ظهرت قبل التاريخ «المعلوم» وليس المكتوب وحسب! .. أقول المعلوم لأن البشرية عاشت آلاف السنين من التطور قبل الكتابة. وكان التاريخ في تلك العصور لا يكتب، إنما يحفظ في الذاكرة الاجتماعية على شكل «أسطورة»، وكذلك على شكل «عُرْف اجتماعي»، فالتاريخ هو تسجيل للتجربة الإنسانية التي لا تتوقف، سواء كان ذلك التسجيل في الذاكرة أو المخطوطات أو المطبوعات أو الحاسوب.
متى ظهرت الأسطورة؟ ولماذا؟
معظم الباحثين في هذا المجال أشاروا إلى أن الأسطورة ظهرت منذ الوجود الأول للإنسان على الأرض، أي منذ انبثاق الوعي!. فالوعي لا يوجد بدون تفكير، والتفكير «الإنساني» لا يوجد بدون المفهوم «المطلق» الغير موجود في الطبيعة بالأساس. فالحيوانات كلها تستطيع أن تميز الماء عن غيره من المواد، ولكن لا يوجد مفهوم «الماء» إلا عند الإنسان، من حيث أن هذا المفهوم يعبر عن الماء في الكأس والنهر والبحيرة والبحار والمحيطات وحتى في الفضاء الخارجي إن وجد!.
لماذا يوجد الوعي لدى الإنسان ولا يوجد لدى الحيوانات؟
كل أنواع الكائنات الحية لها آليات دفاع متعلقة بالحفاظ على النوع، فالنباتات تنتج ثماراً بداخلها بذور، والحشرات تتكاثر بأعداد هائلة ليموت نصفها أو أكثر ويستمر الباقي في إنتاج الحياة، والحيوانات تأكل النبات أو اللحوم للاستمرار.. وهكذا. بينما الإنسان ليس لديه القوة ليكون كالوحوش، وليس لديه السرعة للهروب أو الحصول على الفريسة، ولا يستطيع النوم في العراء أو الطيران أو الغوص في الماء كالسمكة، ولكنه استخدم أفضل آلية دفاع عرفتها الطبيعة، ألا وهي الوعي الذي أوصله إلى القوة والطيران والغوص وكل آليات الدفاع الأخرى!.
الوعي لا يوجد بدون مجتمع، حيث أنه ينشأ من التواصل بين الأفراد، بالإضافة إلى أن العمل الجماعي للإنسان يحميه من الوحوش ويوفر له الغذاء الكافي، ولذلك لا بد له من تنظيم العمل الجماعي ضمن «منظومة فكرية» نطلق عليها نحن في هذا العصر أسم «أسطورة». وهذه الأسطورة ليست ثابتة ولا يمكنها أن تكون، لأن المجتمع متطور بكل ظواهره.
انتهت الأسطورة عندما بدأ عصر الحضارة، أي عندما صنع الإنسان غذائه بنفسه عن طريق الزراعة وتدجين الحيوانات ونتج عن ذلك فائض في الإنتاج، أي «ثروة».
الثروة أعادت تنظيم المجتمع لخدمة الثروة وليس العكس، والأسطورة أصبحت جدار حديدي يمنع التفكير إلا باتجاه واحد، هو زيادة الثروة! أما الفلاسفة والمفكرين والأنبياء الذين حاولوا إعطاء الأولوية للتطور الاجتماعي من أجل زيادة الإنتاج والثروة، إما قتلوا أو أُقصوا أو نجحوا، ولكن تم تشويه نجاحهم كلياً أو جزئياً فيما بعد!.
الأسطورة ليست مجرد خرافة تألقت في ذهن فرد مبدع، إنما ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمقدار ونوعية التجربة الاجتماعية القائمة. فعندما اكتشفت المرأة الزراعة في المجتمع البدائي، ولاحظت أن حبة الحنطة التي تبدو ميتة، عندما توضع في التراب وتسقى ماءً، تنبت سنبلة فيها عشرات الحبات. هذا الأمر جعلها لا تعتقد وحسب، بل تجزم أنه لا يوجد «موت» بمعنى «الفناء»، إنما يوجد «عالم سفلي لا نراه، وعالم علوي نستطيع ملاحظته». ومن هنا أيضا انبثقت أسطورة «تناسخ الأرواح».
هذه الأساطير وغيرها لم تكن موجودة من أجل تفسير الظواهر الطبيعية وحسب، بل وهو الأهم؛ من أجل التعامل مع الطبيعة وتسخيرها لصالح المجتمع.
من المؤسف حقاً بأننا نتعامل مع الأسطورة على أنها خارج التاريخ والجغرافيا والوعي الإنساني، ولذلك لم يتطرق لموضوع الأسطورة إلا القلة القليلة من الباحثين، كما أن الجامعات في العالم أجمع لا ترصد ما يغري للتخصص والبحث في هذا المجال.
** **
- د. عادل العلي