هذه قراءة لا تخلو من انفعال ناشئ عن بعض الإشكالات المستفزَّة في رسالة (اللسانيات والتكامل الثقافي المتوازن في تعليم العربية لسانًا أول) للأستاذ الدكتور محمد صلاح الدين الشريف، من إصدارات مركز الملك عبدالله الدولي لخدمة اللغة العربية. وستكون على حلقات؛ لأن الاقتباسات من الرسالة مطولة تجنبًا لاجتزائها ونزعها من سياقها؛ فأستميح القارئ عذرًا على ذلك.
بداية لا بد من توضيح بعض النقاط:
1 - أمين المركز الأخ الصديق العزيز الملهم د. عبدالله الوشمي محل إعجابي على المستوى الدبلوماسي والإداري، ولا أعتقد - من خلال معرفتي بطبيعته - أنه سيضيره ما كتبته؛ بل سيكون محل تشريح ونقد وتمييز.
2 - ملقي المحاضرة (الرسالة) بالنسبة لي غير معروف، وهذا قصور فيّ أنا؛ ولذلك تشجعت على قراءة ما صدر عنه بعدما اطلعت على الاحتفاء به -وهو أهل لذلك - من قِبل جامعتين عريقتين (جامعة المؤسس وأم القرى)، ومراكز علمية راقية (مركز التميز البحثي وأدبي جدة ومركز الملك عبدالله). فشعرت بتقصير تجاه شخصية كبيرة، وأخذت على عاتقي قراءة آخر ما صدر له.
3 - أود أن أبين - مقسمًا بالله - أنني لا أعلم أي تقاطع بيني وبين الملقي لا تحكيمًا ولا رأيًا، ولم أسمع به إلا مرة من زميل تونسي. لكنني لما رأيت الاحتفاء توقعت أنه صاحب كلمة فصل في كثير من التخصصات؛ وهذا ما جعلني أقلق على العلم اللساني والوطن والمختصين الذين لا يتوافقون مع منهج الرسالة وأسلوبها.
4 - إن هذه القراءة لا تصلح للتعميم على جهود المركز ولا الملقي؛ إنما تبقى في إطارها، لكنني كتبتها متحمسًا؛ لأنني رأيتها - على قصرها - تتحدث بشكل صارخ عن قضية تؤرقني وتزعجني، وأتحدث دائمًا عنها دون أدلة واضحة للناس.. فوددت بعدما نشرت المحاضرة (الرسالة) أن أدلي برأيي فيها، خاصة أن توجهها لا يسرني أنا على الأقل. وأنا أزعم أنني لن أناقش الأفكار هنا، لكنني سأناقش الأسلوب والمنهجية المتبعة في الطرح؛ فهي المشكل عندي.
5 - أتفهم الضغط الذي يواجهه المركز في سباقه مع الزمن لإخراج مثل هذه الإصدارات دون تمحيص، ودون تحمل مسؤولية ما يقع من مؤلفيها من هنات معقولة أحيانًا، وغير مقبولة أحيانًا أخرى؛ ولهذا فمن واجبنا وحقنا أيضًا التنبيه والتساؤل، وهو ما قمت به هنا.
6 - أثني على توجُّه المركز في إخراج مثل هذه الفعاليات ضمن «اهتمام المحاضر وتخصصه، ومسيرته العلمية، والآفاق البحثية التي رادها، والتي يوصي بارتيادها» (الغلاف الخلفي). وهذا جميل شريطة أن يعترف المحاضر بحدود علمه وجهله.
7 - قرأت عن الملقي سيرته الحافلة وتخصصه العلمي، وليس لأحد الحق في منع الآخرين من الحديث عن تجاربهم بشرط أن تؤخذ على أنها تجارب باحث تنقَّل من تجربة إلى أخرى، وله عتاد تخصصي معين. لكن ما دفعني للكتابة هو توجه المحاضرة (الرسالة) في تصنيف المختصين في مجالات علمية، لا يمكن أن يحيط بها شخص مهما بلغ. لكن الرسالة من نبرتها توهم بأن صاحبها يقول الحق الأبلج في كل القضايا المطروحة، وفي مختلف التخصصات المذكورة، ويقيّم السابق واللاحق، والتراث والحديث، والعربي والأعجمي.
8 - في كل ما أكتبه هنا لدي قناعة بوجود بعض الانفعال الذي أتمنى ألا يكون مبررًا حفاظًا على مصداقية العلم وأهله ومراكزه؛ ولهذا أتمنى من المركز والملقي أن يوجِّهاني إلى المواضع التي حدت فيها عن الصواب، وهي - بلا شك - كثيرة. لكنني أرى أن هذه الرسالة شأنها شأن بعض الفعاليات (العلمية) في العالم العربي التي تظهر على صورة عملة نقدية لها وجهان: خطبة هجائية في ذم الآخرين، وملحمة فخر لما يقدمه الباحث من عمل! وقد وجدت أن هذه الرسالة نموذج يصلح أن يكون محل تشريح ناقد لما نعانيه علميًّا.
أنتقل الآن لحصر بعض النقاط المزعجة التي عانينا منها، وعانى منها العلم على المستوى العربي والخليجي والسعودي خصوصًا، في مجال اللغة العربية. هذه الانفعالات التي أتمنى أن تكون غير صحيحة، لكنها تبقى انطباعات خرجت بها من قراءة سريعة عابرة للرسالة (المحاضرة). وليعذرني القُراء على طولها؛ لأنني حرصت على توثيق كلام الملقي مما كُتب في الرسالة؛ ولهذا جاءت على حلقات:
- في جُل ما يطرحه الكتاب من قضايا وتخصصات خرجت بانطباع أن الرسالة تتسم بقطبية لغوية. وأعني بالقطبية طريقة سيد قطب في كتاباته، وهي أن العالم جاهلي، وليس فيه خير ما عدا ما يبشر به. كذلك أن المشتغلين في القضايا المطروقة يمثلون قطبين متصارعين متنافرين: أحدهما بنوايا خبيثة، والآخر ساذج لا يفهم. ثم ينبري لنا الباحث بصوت الحكمة والعقل والتروي والفهم الدقيق؛ فهو طوق النجاة لنا من تيارات تحيق بنا. وسوف يتضح ذلك من النقاط التي سترد تباعًا.
وربما لا أعترض على حقه في ذلك مع ما فيه من مجافاة للمنهج العلمي لكني في الوقت نفسه لا أخفي خشيتي من أن يكون تحكيم الملقي بنفس المنهج وهو صاحب كلمة مسموعة في التخصص (التخصصات
- قرأت الرسالة ونبشتها باحثًا عن كلمة شكر أو ثناء للمراكز التي أعطته مجال الحديث أو الجامعتين، أو حتى الحضور أو الوطن الذي احتضنه بجامعتين وثلاثة مراكز. وأرجو - بل أجزم - أنه شَكَر الآخرين لكن ربما سياسة المركز أن تحذف عبارات المجاملة والشكر.
- في الرسالة نفَس متحيز، تلمس منه تشويه الآخرين المخالفين. ولا أعلم أي موقع للعلم من هذا (انظر ص108 التي سيأتي التعليق عليها). وفي نشر هذا النفَس - بل الاحتفاء به - مشكلة منهجية لطلاب الدراسات العليا وللباحثين عمومًا.
- في الرسالة نفَس منتشر - للأسف - في بعض المؤتمرات العربية التي حضرتها، وهي أن بعض الباحثين لكي يبرزوا تميزهم لا بد لهم من زحزحة الآخرين (الجهال أو الخبثاء أو الذين لم يفهموا جيدًا)، وتهميشهم، وتهشيمهم؛ لكي يجدوا موطئ قدم لهم في الميدان!! وهذه الصفة التي ما زالت حاضرة لدى بعض الأكاديميين أصبحت موضع ازدراء من العوام في وسائل التواصل الاجتماعي.
- الحق يقال إنه في ص10 ذكر كلامًا جميلاً: «...فصاحبها [صاحب الرسالة يعني الملقي] على وعي كامل بأن العالم العربي يعج بالمشتغلين في مختلف الاختصاصات، وليس له أن يدّعي الريادة في أحدها، ولا من شأنه أن ينتصب داعيًا ولا هاديًا» إلا أن الانطباع الذي خرجتُ به من قراءتي على خلاف هذا الأمر، إضافة إلى أن صاحبنا ربما لم ينتصب داعيًا ولا هاديًا، لكن قومنا نصّبوه كرمًا منهم!
سأتوقف هنا، وسنكمل في الحلقة التالية ما بدأناه.
** **
د. صالح بن فهد العصيمي - أستاذ مشارك في التربية واللغويات التطبيقية