في الحضارات القديمة حظي حيوان الثور بقيمة عليا تمخضت في تأبيده رمزًا للقوة والخصب والتكاثر. ويبدو أن الحاجة إليه في لوازم حرث الأرض وتكبد المهمات الجسام لأجل ضرورة التعمير وتشييد الحضارة؛ وهبته مزايا فخمة وأحلّته مكانة خاصة في تلك الحضارات بررت تجسيده في شكل رسومات وتصاوير خالدة. كما أن الثور هناك وفي الديانات السماوية، وغير السماوية، انتحل صفات قدسية لا شك في ذلك، ومن هنا نفهم حكاية السامري وعجول هيكل سليمان، وحتى الحضارة المصرية التي كان يشترط الكهنة فيها مزايا معينة وعلامات بعينها في الثور لضمه في عداد القرابين، وهو ما قد يفسر لنا تشدد بني إسرائيل حين طلب منهم موسى عليه السلام أن يذبحوا بقرة، فراجعوه عن لونها وماهيتها وغير ذلك. وما ضيافة الخليل إبراهيم بالعجل الحنيذ إلا لخصوصيته في القربة والهبة والبذل.
وندرك من وحي بعض المعاجم العربية علاقة الثور بالعمل الذي يؤديه وهو الحراثة التي يحبها الله لأساس عمارة الأرض القائم عليها، وفي بعض المصادر مثل «حياة الحيوان» للدميري: وسمي الثور ثورًا لأنه يثير الأرض، كما سميت البقرة بقرة لأنها تبقرها. واللافت أن الكلمتين تكادان تتطابقان نطقًا مع نظيرتيهما في القشتالية مثلًا؛ فيقول الإسبان «تورو» toro للثور و»باكا» vaca للبقرة، وليس ذلك من تأثير العربية فيها كما يتوهم بعضهم، بل هو في أصل اللغة اللاتينية القديمة. فهل الأمر على وجه المصادفة أم توهمت معاجمنا عربية الكلمتين، أم أنه تعضيد لفرضية أن العربية أصل اللغات؟
في الواقع هذا البسط ليس موضوعنا هنا لكنه عرض لي فطرقته، ولعل لنا معه وقفة، أما حديث المقالة فعن رمزية حيوان الثور بين الثقافتين الإسبانية والعربية. حين تستقلك الحافلة أو القطار بين مدن إسبانيا تلحظ تصاوير هائلة الأجرام للثور على جنبات الطريق بوصفه رمز القوة الضاربة، وكنت وقتها أستغرب ذلك لانغراس رمزية الغباء عنه في ذهني من واقع ثقافتنا العربية، على الأقل الشعبية منها التي تنسحب على عامة الوطن العربي.
لكن في بعض المصادر اللغوية القديمة كلسان العرب مثلًا، ترد العبارة التالية: «والثَّوْرُ الأَحمق؛ ويقال للرجل البليد الفهم: ما هو إِلا ثَوْرٌ. والثَّوْرُ الذكر من البقر...»، والملاحظ هنا الإشارة إلى العلاقة بين لفظة ثور ولفظة الأحمق لكن الثور هنا لم يربط ابتداءً بالحيوان المعروف بدليل ورود الحديث عنه بعدها مباشرة، دون أن يعني هذا انتفاء إمكانية العلاقة بين هذا المعنى والثور الحيوان.
إذن هناك علاقة بين لفظة «ثور» ودلالة الحمق والبلادة في ثقافة العرب القديمة، وليست مستجدة في الثقافة الشعبية كما يُعتقد، ولا أدري هل كان المثل القديم «أكلت يوم أكل الثور الأبيض» منبنيًا على رمزية الغفلة والغباء في القصة من جهة سهولة مخادعة الأسد لثيران المرج؟
بالمقابل استفرد الثور برمزية القوة المطلقة في الثقافة الإسبانية وغيرها، ولا يمكن أن تقنع إسبانيًا اليوم بفكرة نسبة الحمق والغباء للثور، ولا تبرير رمزيته لذلك في الثقافة العربية.
ورغم أن الإسبان يخادعونه بسرعة -كما يبدو- في حلبة المصارعة بخرقة حمراء يظل يناوشها حتى ينهك ويسهل الإجهاز عليه؛ لا يخطر لهم قرانه بالغباء ألبتة، فهو كالأسد لا يمكن اقترانه بصفة الحمق أو الجبن على الإطلاق.
وبمناسبة ذكر الأسد، فبعض المؤرخين الأندلسيين، ممن لم يرثوا عن أسلافهم العرب ثنائية الثور والغباء؛ يحدثنا عن صراعات يكون طرفها الثور والأسد في مهرجانات احتفالية، في رمزية أكيدة للمقارعة والفتك والغلبة. هذا لسان الدين ابن الخطيب حينما وفد سفيرًا لغرناطة في بلاط بني مرين في المغرب منتصف القرن الثامن الهجري تقريبًا؛ يذكر احتفالًا أقامه أبو عنان، سلطان المغرب آنذاك، ويصف عراكًا داميًا بين أسد وثور، لينتهي المشهد بمصرع الأسد وانتصار الثور؛ يقول:
أنعامُ أرضك تغلب الآسادا
طبعًا كسا الأرواحَ والأجسادا
ويصف هو نفسه حفل إعذار في قصر الحمراء بغرناطة حيث تناوشت فيه الفرسان ثورًا شرسًا بمساعدة الكلاب؛ وهو تقليد ربما انتهى إليهم من سكان البلاد الأصليين ومن إرث روما وربما نقلوه أيضًا من ثقافة الشرق الهاضمة لسابقاتها.
وفي الوقت الذي يرد الثور في العربية بمعنى الرجل الغبي، لا نجد مثل ذلك في معانيه الكثيرة بالإسبانية، بل على العكس من معانيه في الإسبانية: الرجل الذي لا يخدع لأنه طويل التجربة!
** **
- د. صالح عيظة الزهراني