حاورها - حمد الدريهم:
نأت بنفسها عن الظهور الكثيف في المحافل والمهرجانات الثقافية ؛ لتظهر باستمرار - منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي - على أرفف المكتبة العربية في الرواية والترجمة والقصة القصيرة وأي شيء يتصل بالإنتاج المعرفي والإبداعي.
التقينا الأستاذة العراقية القديرة: لُطفية الدليمي من أجل أن نقترب من تجربتها العميقة ولاسيما في الترجمة والرواية، وعن رؤيتها للحظة الثقافية الراهنة في العالم العربي، إضافة إلى قضايا تتعلق بنتاجها المعرفي المتنوع، فإليكم الحوار:
* بداية أود أن أسألكِ سؤالاً مستلهماً من أحد الأعمال التي قمتِ بترجمتِها مؤخراً، المعنون بـ«الثقافتان»، أليس في ترجمة عمل يحمل رؤية قديمة تعود إلى عام 1959م إضافة متأخرة إلى المكتبة العربية، ألم يكن الأجدى إضافة ما استجدّ من رؤى في موضوع الثقافتين: العلمية والأدبية والعلاقة بينهما؟
- أرى أنك فعلت خيراً كبيراً إذ سألت هذا السؤال الذي ينطوي على قيمة كبيرة، وإن جاءت في إهاب إشكالية مفاهيمية ينبغي تفكيكها بوضوح. تمتلك بعض الأعمال المعرفية (وبخاصة المنشورات ذات الطبيعة التقنية) قيمة كبرى؛ بسبب تناولها معضلة تتّسم بالراهنية، وما أن يتمّ وضع العلاجات المناسبة لتلك المعضلة حتى يتمّ طيها في بحر النسيان بعد أن تكون معضلات كبرى قد حلّت محلها؛ لكن ثمة في الجانب الآخر من الصورة أعمال فكرية مفصلية شكّلت انعطافات ثورية في ميدانها، وتمتاز هذه الأعمال بخصيصة متفردة من حيث استعصاؤها على البلى الذي يأتي به تراكم الزمن والإشكاليات الفكرية المستجدة، وتوسم مثل هذه الأعمال في العادة بأنها لازمنية time - invariant تقاوم فعل الاندثار ولا تخمد جذوتها المتقدة مع السنين، ودعني أقدّم لك مثالاً أشد وضوحاً: نعرف تماماً المديات غير المسبوقة التي بلغها الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته المتعاظمة ؛ لكن لو أتيح لنا دراسة الأدبيات والكتب المنهجية التي تتناول هذه الجبهة المعرفية لعرفنا أن معظمها لا تستطيع التغافل عن ذكر عملين بحثيين للعالم البريطاني الأشهر (آلان تورنغ Alan Turing)، وربما ستزيد دهشتنا إذا علمنا أنّ أحد العملين نُشِر في دورية (Mind) التي تختصّ بالموضوعات الفلسفية الخالصة!.
أما فيما يخصّ كتاب (الثقافتان) وهو في الأصل محاضرة ألقاها اللورد سي. بي. سنو في سياق ما يعرف بمحاضرة (ريد) السنوية بجامعة كامبردج عام 1959 فقد مثّلت انعطافة مفصلية في تناول العلاقة الإشكالية بين الثقافتين العلمية والأدبية، وباتت مفردة (الثقافتان) اصطلاحاً ممهوراً بتوقيع اللورد (سنو)، وستبقى علامة تأريخية يتوجّب معرفتها والاطلاع عليها من جانب الأجيال الجديدة، ولا زالت تحمل سمات الجدّة والسطوة الثقافية وكأنها كتبت في يومنا هذا، ويمكن اعتبارها بمثابة حجر زاوية للانطلاق نحو ترجمة أعمال جديدة وبخاصة فيما يخصّ مفهوم (الثقافة الثالثة) الذي كتبتُ عنه مؤخراً.
ينبغي الاعتراف أيضاً بقصورنا المزمن في الترجمات المواكبة للمتغيرات الثقافية العالمية، ولو كان عمل اللورد (سنو) قد ترجِم من قبلُ أجزم أنني كنت سأوجّه جهدي الترجمي نحو أعمال عديدة أخرى تنتظر دورها في الترجمة.
* بحسب إحصائية جمعية الناشرين الدولية (IPA)، في عام 2013م صدر ما يقرب 300400 ألف كتاب باللغة الإنجليزية في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها ؛ ألا توحي هذه الإحصائية بأن ملاحقة المعرفة المكتوبة باللغة الإنجليزية لنقلها إلى العربية أشبه بمحاولة القبض على السراب؟ كيف يمكن حلّ تلك الإشكالية؟
- لا أحد يتحدث في كلّ العالم (بما فيه العالم المتقدّم) عن ترجمة كلّ الأعمال المؤلفة إلى جميع اللغات المعروفة ؛ فتلك مهمة أسطورية تعجز عنها الكائنات البشرية وربما ستكون متاحة بعد بضعة عقود بفعل تطور تقنيات الترجمة الآلية والتشذيب المتواصل في المعالجة النصوصية والدلالية. الأفضل في كلّ الأحوال تخصيص الموارد المتاحة - وهي شحيحة مهما تعاظمت - لترجمة نخبة منتقاة من المنشورات العالمية في الميادين المعرفية والتقنية التي نشعر بأهميتها الاستراتيجية، ويتوجب أن تنهض بهذا العبء هياكل مؤسساتية مدعومة مالياً ولوجستياً.
ثمة ملاحظة أخرى في هذا الميدان: ليست الأعمال المترجمة وحدها بقادرة على ملاحقة كل المنشورات العالمية التي تتناغم مع الذائقة الفردية والاحتياجات الشخصية لكلّ قارئ، ومن هنا تنشأ الأهمية المتعاظمة لضرورة تعلّم لغة أجنبية (الإنكليزية في المقام الأول) تتيح للمرء انتقاء وقراءة ما يشاء من غير وسيط ترجمي.
* ما أثر تقنيات الذكاء الاصطناعي المتقدمة في مجال الترجمة، هل يمكن أن تردم الهوّة المعرفية بين اللغات؟ وهل من الممكن أن تؤدي إلى انحسار عمل المترجمين في اللغات المختلفة بسببها؟
- هذا سؤال يصعب التكهّن بجوابه المناسب وبخاصة ونحن نشهد تطورات ثورية في ميدان الذكاء الاصطناعي لم نكن نحلم - ربما - بها قبل عقد من السنين. ثمة فرق أكيد بين اللغة ككيان معرفي وثقافي يمثّل هوية وطنية وبين اللغة باعتبارها حاجزاً ثقافياً يسهم في تعويق الاندفاعة العولمية المتغولة، ويجب دوماً الحفاظ على موازنة دقيقة وصارمة بين هاتين الخصيصتين وعدم تغليب واحدة على الأخرى لأسباب ذات منشأ عرقي أو شوفيني أو كلّ ما يمتّ بصلة للمفاخرة القومية والكبرياء الخاصة ببعض السلالات البشرية ؛ وهو الأمر الذي تنبّهت له منذ وقت مبكّر بلدان فاعلة في المشهد العالمي مثل: اليابان، الهند، الصين، كوريا الجنوبية، سنغافورة ؛ إذن ليس المطلوب من الجهد الترجمي ردم الهوة المعرفية (الافتراضية) بين اللغات وإنما تجسيرها بجسر ذي معبريْن يتيح التفاعل الخلاق وتوظيف المتغيرات التقنية الثورية في التنمية الوطنية.
أما فيما يختصّ بعمل المترجمين بعد الصعود الصاروخي المتوقّع لتطبيقات الذكاء الاصطناعي فذاك أمر موكول للمستقبل، والمترجم كائن بشري يستطيع التكيّف وإعادة هيكلة وضعه تبعاً للظروف المستجدة، وعزاؤه في ذلك أنه لن يكون وحيداً في مسعاه هذا بل ستلتحق به جمهرة واسعة من المحامين والأطباء والجرّاحين والمدرّسين،،، الخ.
نحن على أعتاب عصر جديد يمثّل (بلغة الذكاء الاصطناعي) انفرادية Singularity غير مسبوقة ستعيد تشكيل الزمان والمكان والعلاقة بين الكائنات البشرية وغير البشرية.
* من يتأمّل حال أغلب المثقفين العراقيين، خاصة ممن هم في جيلك، يجد أنهم ينتمون لتيّارات أو لأحزاب مختلفة، كيف نأت لُطفية الدّليمي بنفسها عن الانغماس في تلك التيارات ولاسيما في تجربتها الإبداعية خلال العقود الماضية؟
- تأريخياً، جاء مفهوم الأحزاب تطوّراً طبيعياً للعبة السياسية التي ترسّخت أركانها في القارة الأوربية بعد صعود الديمقراطية الليبرالية، والأحزاب لديهم هي في عمومها أحزاب ذات أهداف تنموية تسعى للارتقاء ببلدانها على كافة الصعد حتى وإن تنافست فيما بينها للوصول إلى الحكم بوسائل الديمقراطية المعروفة.
أما الحال في بيئتنا العربية فمختلف تماماً ؛ إذ صارت الأحزاب السياسية مطية يتسلّقها بعامّة أقل الناس حظاً من التعليم والكياسة والتحضّر والإيمان بالقيم المدنية العليا، واستحال الصراع الحزبي حفلة صراع دموية وعبثية أهدِرت فيها الكثير من الدماء البريئة والموارد الثمينة (بشرية ومادية)، ويمكن القول باختصار أنّ الحياة الحزبية لدينا هي أقرب في بعض جوانبها إلى حياة البلطجية والمافيات في صراعهم الدموي الذي لا يرحم في الإمساك بالسلطة وموارد الثروة ؛ ومن هنا كان نفوري الطبيعي ومنذ بواكيري الأولى عن كلّ أشكال التنظيم الحزبي.
لا بدّ أيضاً في هذا الشأن عدم إغفال حقيقة أنّ كُثراً من الذين توسّموا في أنفسهم ميلاً إبداعياً - وبخاصة في عراق الخمسينيات الستينيات - انغمسوا في الحياة الحزبية التي استحالت موضات سائدة في ذلك الوقت، وكانوا في معظمهم مدفوعين بدافع الرومانسية الثورية أو بدافع التحصّل على بعض المكاسب والمنافع الوظيفية التي تعينهم من الناحية المالية ؛ لكنّ الأمر كان وبالاً مطبقاً أطاح بالعراق وأدخله في دوّامة ثقب أسود شرير لا نعرف حتى اليوم إلى أين ستقودنا تخومه المتوحشة.
كنت على الدوام قانعة بمعيشتي وراتبي الوظيفي ومكتفية بحياتي التي أردتها أن تترسّم - بقدر الاستطاعة المتاحة - خطى الزهّاد والعرفانيين العِظام في تأريخنا العربي والتأريخ الإنساني معاً بعيداً عن كلّ الهيلمانات المنتفخة التي تخلعها الأحزاب على مريديها من الكتاب والمبشرين بالجنة الموهومة.
* عُرف عنكِ النأي عن حضور المنتديات والمهرجانات الثقافية بصورة عامة، منها التي تحمل سمة التكريم، لم هذا الابتعاد؟ أليس المثقف بحاجة للتواصل والحوار في تلك المنتديات والتكريم المستحق لتقدير منجزه؟
- نعم، المثقف في أقصى أشكال الحاجة للتواصل البشري، وكم نحن مدينون لهؤلاء العظماء الذين أتاحوا لنا فرصة التواصل اللحظي وإن كان من خلال شاشة حاسوب أو هاتف نقال ؛ لكنّ الحقيقة التي لا استطيع نكرانها أنّ بي ميلاً طبيعياً للعزوف عن التجمّعات الصاخبة، وربما يكون السبب طول انكبابي على عزلتي الاختيارية التي أرتاح إليها وآنس فيها كثيراً وأنجز معها مشاريعي من غير تبديد للزمن أو اتكاء على ظهور في مؤتمر أو مهرجان.
* يقول جورج أورويل في كتابه: لماذا أكتب؟: « تأليف كتاب هو صراع رهيب ومرهق «، تجاوزت الآن مؤلفاتك أكثر من خمسين مؤلفاً، من أين تستمدين هذه اللياقة الذهنية في غزارة الإنتاج المعرفي؟
- نعم، تجاوزت مؤلفاتي - إبداعاً وتأليفاً وترجمة - الخمسين مؤلفاً، ولدي الآن مخطوطات لخمسة أعمال مترجمة كاملة وثلاثة أعمال مؤلفة بالإضافة إلى أعمال بدأت بها ولم أكملها ؛ فأنا من عادتي أن أعمل على التوازي في عدّة أعمال ولا استطيب العمل في عمل واحد بمفرده.
يكمن السر في كلمة واحدة: الشغف ؛ فقد تملّكني الشغف منذ يفاعتي المبكرة في كلّ الضروب المعرفية وبخاصة في حقل الفيزياء والكوسمولوجيا والفلسفة وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا ودراسة اللغات والتأريخ والفلكلور إلى جانب قراءة الأعمال الإبداعية العالمية، ولديّ حتى اليوم تقليد أسبوعي أتابع بموجبه الكتب الحديثة التي تنشر على موقع (الأمازون)، إضافة إلى قراءاتي المتواصلة في بعض المنشورات العالمية الرصينة مثل: مجلة الإيكونومست، ملحق التايمز الأدبي، مراجعة نيويورك للكتب، وكثيراً ما أعمل على ترجمة مقالات منتخبة من قراءاتي تلك ونشرها في الصحف والمجلات الثقافية المتاحة أمامي، وإذا ما أعجبني كتابٌ ما فلا أتردّد في البدء بترجمته.
حياتي كلها كرّستها للقراءة والتأليف والترجمة وعملتُ خلال عشرات السنين وفقاً لسياق منضبط وصارم على المستويين السايكولوجي والاجتماعي.
* من يقرأ أعمالكِ الروائية الأخيرة يلحظ حضور (العرفانية) و(الصوفية) فيها، هل هي ردّة فعل طبيعية لآلام الإنسان المُعاصر الذي مزقت روحه نزاعات ما بعد الحداثة؟
- يمثل التصوف وتوأمه: العرفان، القمة المشرقة في رأسمالنا المعرفي التراثي الحافل بالنزعات الأصولية المتطرفة أو التلفيقية والمثقل بالتأويلات الفقهية التي تعمل على مصادرة العقل، وأرى أن كتابات المعتزلة وأقطابها الأكابر توفر ما يمكن توصيفه بِـ (خارطة طريق) للنزوعات العقلانية وسط بيئة تسيّدتها الأصولية وافتقدت المرونة التي تديم شعلة التساؤل الفلسفي وما يتطلبه بالضرورة من نزعة شكوكية لا تتقبل اليقينيات الراسخة وترفض الحقائق المطلقة، وعلى الصعيد الشخصي أرى أن النصوص الصوفية التي كتبها أعاظم المتصوفة ستبقى نبعاً ثرياً للعقول المتعطشة إلى المعرفة والتواقة للرؤى والكشوفات الفلسفية والذهنية، ولن يخفت وهج هذه الكتابات بل سيتعاظم في قادمات الأيام.
لا أظن أن توظيف التراث - وبخاصة في جوانبه التصوفية والعرفانية - موضوعة تنتمي للجدل المتواصل حول ثنائية التراث - المعاصرة، بل تمثل موقفا مختلفا خارج هذه الثنائية، وثمة في المشهد الثقافي بعضُ فهمٍ قاصرٍ لتوظيف التراث الصوفي في النصوص والروايات المعاصرة بطريقة مقحمة أقرب للنزعة التزيينية دونما تمثّل حقيقي للكشوفات العرفانية عملياً وحياتياً على الصعيد الشخصي.
* العديد من الأعمال الأدبية العراقية تناولت ووثّـقت الألم العراقي خلال العقود الماضية إلى الفترة الراهنة، ألم يحن بعد كتابة رواية مستقبلية، تحاول بناء صورة مُتخيلة لعراق المستقبل؟
- العراق، وبفعل قوانين الجغرافية السياسية وأوضار السياسة الحمقاء، صار مرتعاً للحزن المستديم الذي طبع الشخصية العراقية ووسمها ببصمته الصارخة، ومن الطبيعي أن تنعكس آثار هذا الحزن المتغلغل في ثنايا الروح العراقية في كلّ الأعمال الإبداعية ؛ لكنّ الحقّ يقال إن الأمر صار أقرب إلى الموضة التي يوظفها بعض الكتّاب (المستجدين بخاصة)، بافتراض أنها المقترب الأيسر لولوج عالم الرواية وتوظيف كمّ هائل من الجرعة الميلودرامية القادرة على حصد تعاطف القرّاء.
أنا من جانبي أميل لتوظيف الألم العراقي كثيمة روائية واحدة ضمن ثيمات كثيرة تشكّل جوهر العمل الروائي ؛ فنحن في نهاية الأمر لا نستطيع خلع جلودنا والقفز بشكل مصطنع فوق حقيقة الحزن العراقي المتوغّل عميقاً في الروح العراقية ؛ لكن على الرغم من ذلك فقد عزمتُ في روايتي التي أعكف على كتابتها في الوقت الحاضر على تجاوز كل ما يشير إلى سلسلة المآسي والحروب العراقية المفجعة، ولا اذيع سرّاً إذا قلتُ إنّ هذا الفعل ينطوي على مشاق هائلة لأنّ الحروب والخسائر العراقية تأبى مفارقة الجسد العراقي المثخن بالجراح.
أما عن الكتابة للمستقبل العراقي فتلك مهمة تكاد تكون مستحيلة ؛ فهل نحن واثقون من وضع العراق ومآلاته المستقبلية في خضمّ هذا الفرن الذري الذي يتلاعب بمصائر منطقة الشرق الأوسط بكاملها لكي نكتب عن المستقبل العراقي؟ إنّ ادّعاء التفاؤل الكذوب واعتباره خصلة حميدة في هذه المرحلة لهو ادعاء باطل وتلفيقي لا يقوم على مسوّغ مقبول ؛ لكن يبقى الأمل مطلوباً بعيداً عن التفاؤل الكذوب.
* ذكرتِ في كتابكِ المعنون بـ (مدني وأهوائي: جولات في مدن العالم): « نقترحُ خرائط أرواحنا في أقاصيّ الخطر وفي أحضان المدن الغريبة حين يطاردنا أو يأسرنا المعنى المغاير لحقيقتنا « ألم يفرض زمن الحداثة السائلة الكونية مدناً متشابهة الروح في هذا العالم، وبالتالي تعطي معاني متشابهة للإنسان؟
- المدن متشابهة الروح أكذوبة كبرى في عصر العولمة مهما تغوّلت واتّسعت نطاقاتها ؛ فلا (بغداد) سوى بغداد واحدة، ولا (جدة) سوى جدّة واحدة، وهكذا هو الأمر مع كلّ مدن العالم. ثمة روح خفية في كلّ مدينة لا يستشعرها سوى مريديها الخلّص، وليس مطلوباً أن تتشابه مدن العالم بل أن تتآخى لخير الإنسانية من غير افتئات على حقوق الآخرين أو تحقير لمكانتهم الإنسانية.
المدن كائنات حية لا تأبه بتوصيفات الحداثة صلبة كانت أم سائلة، وهي بمثابة أوتاد تشدّ الكائن البشري إلى العمق الأرضي وتمنع انجرافه في كتلة سديمية عديمة السمات تضرب الأرض على غير هدى مثلما يفعل أي إعصار. هل يمكن أن نتصوّر غثاثة العيش في مدنٍ صارت بفعل قدرة قادر مدناً متشابهة الروح؟ سيكون الحال أشبه بمشهد بصري ساكن ممتدّ يخلو من أي مسحة درامية، وحينها سينقلب الأمر خواءً مطبقاً سيكون مصداقاً للأرض الخراب التي وصفها إليوت: جموع من البشر تضرب في الأرض على غير هدى وحسب!! المدينة (مثل الأمّ) هي مرجل الروح الخبيئة التي تمنح الكائن البشري القدرة على مواصلة الحياة حتى إذا أعتمت الحياة حوله.
* ذكرتِ في مقدمة ترجمتكِ لكتاب (تطور الرواية الحديثة) لجيسي ماتز:» يُنظر إلى الرواية كوسيلة ترتقي بالخيال البشري وتمنع انزلاقه في مهاوي الركود وبخاصة بعد طغيان الإنجازات العلمية والتقنية التي تعمل على تنميط الحياة وتحويلها إلى سلة خوارزميات محدّدة بطريقة قبلية على نحو صارم «، برأيك هل نجحت تلك الوسيلة / الرواية في تعزيز صحة خيال الذهن البشري وحمايته من التبلّد أم أن السرعة الفائقة للتطور التقني تحول دون ذلك؟
- ثمة جانبان في هذه الموضوعة. الجانب الأول هو أخدوعة التسليم الحتمي بالسطوة المتغولة للتقنيات الرقمية على حياتنا وبما يجعل كلّ جوانب الحياة البشرية تعلي راية الاستسلام أمام هذه التقنيات، ويكمن جانب الأخدوعة هنا في تسليمنا بكلّ ما يأتي مع تطوّر منظومات الذكاء الاصطناعي وكأنها قدرٌ مقدور لا مفرّ من الانسحاق تحت عجلاته. إنّ التسليم أمر طوعي بالكامل، ومثال ذلك هو حياتنا اليومية التي صارت محكومة بجهاز (الهاتف النقال) الذكي وسطوته المحكمة، والغريب في الأمر أنّ أساطين التقنيات الرقمية (بل غيتس، مارك زوكربيرغ، تيم كوك...) يفرضون نوعاً من التعتيم الرقمي على منازلهم لأنهم يقدّرون مدى الضرر العظيم الذي ينشأ عن العبودية الرقمية الشبيهة بحالة الإدمان على المخدّرات.
الرواية إذن - شأنها في ذلك شأن مناشط إنسانية عدّة مثل: الموسيقى، الفن.. ستظلّ ملازمة للوجود الإنساني وإن كان بعض التغيير سيطالها بسبب مفاعيل التقنيات الرقمية ؛ فهذه المناشط تمثل حاجة وجودية عميقة وليست محض ترسيمات تقنية يمكن أن تستبدل مثلما نستبدل نظام تشغيل حاسوبي بآخر أحدث منه.
أما الموضوعة الثانية فهي أنّ الرواية العالمية صارت تستعيد سماتها الكلاسيكية وغادرت عصر الألاعيب الشكلانية التي تعاظمت في أعقاب عصر ما بعد الحداثة ؛ لكن هذه الكلاسيكية الروائية هي كلاسيكية روائية محدّثة بعناصر معرفية جعلت الرواية أقرب إلى توصيف (الرواية المعرفية)، وقد أفضت في هذه الموضوعة في المقدّمات التي كتبتها لكتابيّ المترجمين (تطوّر الرواية الحديثة) و(الرواية المعاصرة: مقدمة قصيرة جداً). أرى، بقدر ما يختصّ الأمر بالرواية، أنّ الفن الروائي على مستوى العالم بات يلعب دوراً متعاظماً خليقاً بجعل الرواية حاضنة ورافعة معرفية تحافظ على تقاليد القراءة الشغوفة من جانب وتمدّ القارئ بجرعات من المتعة واللذة اللتين لا يجدهما في الفروع المعرفية الأخرى من جانب آخر.
* بعد تجربتكِ العميقة في مجال الترجمة، هل يمكن أن نرى كتابا يحوي تجربتك بالإضافة إلى طقوسك وتقنياتكِ الفنية الخاصة في مجال الترجمة ؛ ليكون رافداً للمكتبة العربية؟
- بدأت قبل سنتين في وضع مخطّط أولي لكتاب بعنوان (الترجمة: حياتي الموازية)، ويمكن للقارئ أن يقدّر مدى الأهمية التي أكنّها لعملي الترجمي من خلال جعله حياة موازية ثانية لي ؛ غير أنّ ما يعيقني عن إتمام هذا الكتاب هو مشاغلي الترجمية المتزايدة بالإضافة إلى أعمالي غير الترجمية وانهماكي في كتابة مقالة أسبوعية ومادتين مُترجمتين كبيرتين في صحيفتين مرموقتين إلى جانب تكليفات محدّدة بالكتابة في مطبوعات ثقافية مختلفة، وهذا جهد ليس يسيراً في كلّ الأحوال.
* كيف تصفين اللحظة الثقافية الراهنة في العالم العربي؟
- هي لحظة إشكالية بكلّ المقاييس وتبعاً لكلّ الأمزجة العقلية المتباينة، والغريب في هذه الإشكالية أنها تنبع من كثرة الخيارات المتاحة وليس من محدوديتها!!. تلعب التقنيات الرقمية الراهنة دوراً متعاظماً بالتأكيد في إعادة تشكيل الخارطة الثقافية على المستويين المحلي والعالمي، وتترافق هذه العملية مع أسئلة جوهرية تمسّ في بعض جوانبها طبيعة الكينونة البشرية في أعمق مستوياتها: هل نعلن وفاة المطبوعات الورقية؟ كيف يمكن الحفاظ على بعض القدرات التحليلية - في الأقل - إزاء تغوّل الخوارزميات الخاصة بالذكاء الاصطناعي العميق؟ كيف سيكون شكل الوعي والهوية (الذاتية والجمعية) في عصر الفردنة الرقمية؟ هل نحن سائرون باتجاه شكل جديد من العبودية الرقمية ودولة الشمولية الخوارزمية؟
نأسى ونأسف كثيراً ونحن نرى تصفية بعض المطبوعات الثقافية التي لعبت دوراً كبيراً في تشكيلنا الثقافي وذائقتنا القرائية، وأخصّ بالذكر هنا مجلة (دبي الثقافية) الرائعة بكتابها الشهري الفخم، وأرى أنّ من المناسب العمل بصيغة توليفة توفيقية بين المطبوعات الورقية ونظائرها الرقمية، ولا ينبغي أن نقع في وهم التصور بأنّ معظم القرّاء العرب - وبخاصة من الأجيال الكبيرة - تتقن التعامل مع الحاسوب والتقنيات الرقمية ؛ فالأمية الرقمية أعظم ممّا نظن.
* بعد هذه السنوات كيف تنظرين إلى أعمالك القصصية الثلاثة الأولى التي صدرت في السبعينات: (ممر إلى أحزان الرجال)، (البشارة)، (التمثال)، لماذا لمْ تعيدي طباعتها كما فعلتِ مع (إذا كنت تحب) التي صدرت عام 1980م ثم أعيد طباعتها عام 2015م؟
- تلك الأعمال الثلاثة التي أشرتَ إليها هي أعمال الاندفاعة الأولى، ولستُ أجد حرجاً أو غضاضة في القول إنّ أدواتي الإبداعية وآليّتي السردية ما عادت تتآلف مع تلك التي اعتمدتُها في تلك المؤلفات إلى حدّ لا يدفعني إلى التفكير جدياً بإعادة طبعها بعد أن تقادمت بها الأزمان. لندع القارئ الشغوف ينصرف لقراءة أعمالي الأكثر حداثة بين فيض الأعمال الإبداعية المتناسلة ؛ فذاك أفضل وأجدى من كلّ الجوانب.
* المساحة الأخيرة لكِ، فقولي ما شئتِ أستاذتنا العزيزة؟
- جعلتُ حياتي مصداقاً لتلك الأمثولة التي طلب الكاتب اليوناني المعلّم (نيكوس كازانتزاكي) في وصيته نقشها على شاهدة قبره: (لا آملُ في شيء، لا أخشى شيئاً، أنا حرّ).