د. عبدالحق عزوزي
توحي مواضيع من قبيل «الموجة الثالثة» و»المجتمع ما بعد الصناعي» و»مجتمع تكنولوجيا المعلومات» و»مجتمع التواصل» و»مجتمع اقتصاد المعرفة» و»القرية الكونية» و»رأسمالية الثقافة» و»مجتمع الشبكة» و»الطفرة التكنومعلوماتية» إلى الحالة التي وصلت إليها المجتمعات المتقدّمة؛ وهي كلها إن دلت على شيء فإنما تدل على ارتباط تلكم البلدان بعالم الإنتاج وسوق العمل وتوزيع الثقافة والفنون والعلوم والسلع والخدمات والمعلومات بالرأسمالية التي تتغذى منها، ويتم ذلك عن طريق وسائط الاتصال والمعلومات ... وتتوقف تلكم السياسات العمومية عند العلاقة بين التقنية والمجتمع، حيث إن للأولى انعكاساً مباشراً على مستقبل الفرد والجماعة، وعلى سير المجالات الاقتصادية والمالية والعسكرية والسياسية، بل والثقافية في إطار ما يصطلح عليه بالموجة الثالثة من الرأسمالية؛ كما أن التطورات العلمية، والحاجة إلى عقلنة وتدبير أقطاب دورة الإنتاج، ودراسة توقعات السوق المفاجئة وتداعياتها المباشرة، ومغادرة مهن ذات قيمة مضافة فضاء المجتمع الرأسمالي الجديد، توحي بأن الدول التي ركبت هاته الموجة فإنها على القطار الصحيح، وأن الدول التي لم تركب بعد قطار المستقبل هذا ستعاني أزمات أضعف من تداعيات الأزمة المالية التي عرفها العالم سنة 2008؛ وإذا لم تستطع الدول ابتكار منتوجات المستقبل المولدة لمهن الغد، وتحضير وإعداد الأجيال القادمة من أجل شغل وظائف غير حاضرة بعد في مخيلتنا، فإنها ستغدو في المستقبل مجرد بلدان للسياحة. أما إذا نجحت في ذلك، فستكون جيلاً قادراً على اكتشاف ابتكارات تنبثق منها تطبيقات تؤدي إلى ظهور مثل هذه الوظائف.
ولا غرو أن مرد نجاح سعادة الأمم وتطورها يكمن في وجود سياسات عمومية ناجعة وبناءة تكون لصيقة بوجود عقول إستراتيجية متميزة تنظر إلى المستقبل ومتطلباتها، ومن هنا دعوتنا الدائمة إلى الضرورة العلمية والفكرية والأكاديمية، والحاجة المعرفية، والانتهاج التوثيقي، التي تجعل رجالات الفكر في الوطن العربي يساهمون في هذا الباب بكتب إستراتيجية موضوعية في مجال العلوم الاقتصادية والمالية والسياسات العمومية لجعلها مرجعاً يحتذى بتوفير المعلومات، وتحليلها تحليلاً علمياً واستقائها من مصادرها الموثوقة، وتقديم موادها بحرفية عالية ورفيعة المستوى، إضافة إلى وسمها بكاملها، بالشفافية والموضوعية والدقة، ليتيح المجال واسعاً ومطمئناً لآخذي القرار في البلدان العربية والاقتصاديين ورجالات الدولة، ومحترفي الدبلوماسية والسياسة، الرجوع إليها...
عندما ألفت كتابي لماذا تخلف العرب وتقدّم الآخرون؟ دافعت عن فكرة مفادها أن النظر إلى المستقبل هو محرك تقدم الأفراد والشعوب. وهناك فكرة رئيسية تشكل طريقة هذا النوع من التفكير وهي أن العصر الذهبي للإنسان هو في المستقبل وليس في الماضي. هاته هي الثقافة الصحيحة، والثقافة هي أم جميع الأفراد والجماعات والمؤسسات وهي على حد تعبير أحدهم عادات القلب والانطباعات التي تملك الإنسان والأفكار والتي تشكل عادات تفكيره. وهذا على نقيض الثقافات التي تسكنها قاعدة أن الماضي يجب أن يكون أفضل من الحاضر وبالتأكيد أفضل من المستقبل المجهول والمتوحش ... ونتيجة هاته الفكرة هي التثبيط التي تغلق الفكر وتقعده وتمنع الفرد من الحركة ... فإذا أرادنا الحلول لعللنا علينا أن نطرح السؤال الجيد وننظر فقط إلى داخل أنفسنا.
كما أن الدول المتقدمة ازدهر اقتصادها عندما أنشأت مؤسسات اقتصادية احتوائية، وأخرى خفقت عندما غفلت عنها وأنشأت مؤسسات اقتصادية إقصائية ...
المؤسسات الإقصائية وإن أظهرت نجاحها الباهر اقتصادياً كما هو شأن بعض الدول فإن ذلك ليس بسمة من سمات الدوام والثبات؛ ويبقى رهين الأمواج والتذبذبات؛ ثم هي في غالب الأحيان تبقي المجتمع في غيابات الخوف والترقب... أما المؤسسات الاقتصادية الاحتوائية فإنها تشجع الاستثمارات في الطاقات والصناعات المتجددة والتكنولوجيات الحديثة، وتفرخ المهارات وتبرزها إلى الوجود، مما يؤدي إلى نمو اقتصادي أكثر من المؤسسات الاقتصادية الإقصائية التي بنيت على أصول تحور وتبور؛ وهنا أفكر في دولة ليبيا والتي إذا لم يكف جزء قليل من أبنائها الذين يفخر بهم العالم العربي والإسلامي عن دعوات الانفصال والاستقلال الذاتي، ستبنى مؤسسات اقتصادية إقصائية خطيرة زيادة على غياب سلطة مركزية سياسية واقتصادية قوية، وإرث تاريخي كارثي أقصى ولعقود الإنسان المواطن ومنع المجال السياسي العام من الوجود والحياة.
إن الأمم تزدهر عندما تبني مؤسسات اقتصادية تحمي وتحرر، وتمكن الجميع فقيرهم وغنيهم، صغيرهم وكبيرهم، أعلمهم وعالمهم، من الابتكار والاستثمار والتطور، هذا هو سر التقدم.