أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: أسند (السدي) في تفسيره إلى النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الله لما قال للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [سورة البقرة/ 30]: قالوا: ربنا وما يكون ذلك الخليفة؟.. قال: يكون له ذرية يفسدون في الأرض)!!؛ وهذا الخبر باطل من وجهين: أولهما أن هذا ضمن الإسناد الموحد الذي يسنده (ابن جرير) رحمه الله تعالى إلى تفسير السدي؛ وهو لا يتناول كل تفسير السدي، وإنما يتناول مسائل منه؛ والسدي في نفسه كذاب؛ وما صح في تفسيره فإنما هو بطرق أخرى ليس المعول فيها على السدي.. وثانيهما: أن الله سبحانه وتعالى امتن على عباده بجعل الخليفة في الأرض مع اتباعه؛ ومقتضى أمره الشرعي أن يكونوا قائمين بالحق؛ فالإخبار بإفساد من يفسد منهم لا يناسب سياق الامتنان، ولا يناسب مقتضى الحكمة الشرعية؛ وكل إضافة إلى سياق القرآن الكريم مفسرة إياه: لا تقبل إلا بخبر صحيح؛ وإن خبرا مداره على (السدي) ليس خبراً صحيحاً؛ وهذه الإضافة التي رواها (السدي) ادعى الإمام (ابن جرير) رحمه الله تعالى: أنها مفهومة من السياق وإن لم يرد بها نص، وادعى أنها محذوفة دل عليها السياق، والتقدير عنده: وإذ قال ربك إني جاعل في الأرض خليفة يكون منه ذريات يفسدون في الأرض.. قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها؟.. واستدل لهذه الدعوى بأن الحذف من لغة العرب.
قال أبو عبدالرحمن: أما أن الحذف من لغة العرب فصحيح، وكذلك المجاز من لغة العرب، ولكنه خلاف الظاهر؛ ولا يقبل إلا بدليل يدل عليه.. ولو قبل الحذف في كل كلام بغير برهان دال عليه: لاستحالت اللغات، ولكانت تبعا لأهواإ السامع دون مراد المتكلم؛ وهذه الآية الكريمة لا دليل فيها على الحذف، ولا دليل على الحذف من خارجها؛ وقول الملائكة عليهم سلام الله وبركاته: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا} لا يعني أن الله قال لهم: إن من ذريات الخليفة من سيفسد؛ ولا يحل لنا أن ننسب إلى ربنا كلاما بغير دليل.. كيف وقد قام الدليل على أن الملائكة عليهم السلام عالمون بخلق في الأرض اسمهم الجن سبق استخلافهم؛ ففسقوا، وأفسدوا (كما صحح الحديث الحاكم، والذهبي، وغيرهما).. وقال الإمام أبو محمد ابن حزم نور الله ضريحه عن الجن والشياطين: «لم ندرك بالحواس كونهم، ولا علمنا وجوب كونهم، ولا وجوب امتناع كونهم في العالم أيضا بضرورة العقل؛ لكن علمنا بضرورة العقل إمكان كونهم؛ لأن قدرة الله تعالى لا نهاية لها؛ وهو عز وجل يخلق ما يشاأ؛ ولا فرق بين أن يخلق خلقا عنصرهم التراب والماأ؛ فيسكنهم الأرض والهواأ والماأ.. وبين أن يخلق خلقا عنصرهم النار والهواأ، فيسكنهم الهواأ والنار والأرض».. [الفصل 3/179 طبع المكتبة العلمية ببيروت/ طبعتهم الأولى عام 1416هجريا].
قال أبوعبدالرحمن: ها هنا ملاحظتان: أولاهما قوله: «لم ندرك بالحواس كونهم»؛ فهذا كلام لا يطلق إلا على من لم يدركهم بحواسه، ولكن هناك ألوف من عدول البشر وعقلائهم تكثفت لهم الجن والشياطين؛ فقد رآهم: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحشروا لسليمان عليه السلام، ثم استمرت رؤيتهم في لحظات متعددة متواترة من تجارب البشر.. ومن اطلع على كتب الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى: رأى شيئًا كثيرًا من مشاهدة بعض الجن والشياطين والإحساس بأفعالهم.. وقد ذكر (إسماعيل حقي) حادثة عجيبة عن سرقة الجن كتابا للزمخشري وإحضاره للغزالي، وإيمان الزمخشري بما كان أنكره.. انظر (روح البيان) 1/4 دار الفكر.. والصحيح شرعا أن شياطين الجن لا يفتحون بابًا مغلقًا، ولا ما ذكر عليه اسم الله سبحانه وتعالى؛ فكتاب الزمخشري المسروق أكذوبة صلعاأ؛ فإن قيل كتاب الزمخشري في نسخته الأولى هكذا (الحمد لله الذي خلق القرآن): فالجواب: أن فيه ذكر حمد الله؛ فلما قال له الناس: إذن لن يقتني كتابك أحد، ولن يقرأه أحد: أعاد النسخة الثانية هكذا (الحمد لله الذي أنزل الكتاب)؛ فحمد الله مذكور في النسخة الثانية.. وللناس تجارب مع الأولياإ والزهاد ممن دلت شواهد الحال على صدقهم، ودلت السيرة الشخصية لبعض ضلال الصوفية والحلولية على أن لهم وسطاأ من الجن يتكثفون لهم، ويلهمونهم الشعر، ويضللونهم بالأضواإ والنيران، وأنهم في حضرة الإله سبحانه وتعالى عما يقولون.. وكل أحداث تحضير الأرواح المحسوسة من تجليات الشياطين المحسوسة أكاذيب صلعاأ؛ لأن أرواح البشر في قبضة الله سبحانه وتعالى.. وقد يكون قرين الميت من الجن قبل أن يموت فيخبره بالأكاذيب؛ وهكذا شعوذات السحرة فيها تجليات محسوسة لمردة الجن؛ وإنما تجربة العدول تكون برهانا تاريخيا موثقا تلزم به الحجة.. هذا إضافة إلى التجارب المحسوسة المتكررة.. وأخرى الملاحظتين: عن قول أبي محمد ابن حزم رحمه الله تعالى: «لكن علمنا بضرورة العقل إمكان كونهم)).
قال أبو عبدالرحمن: ما دام أبو محمد قد قيد علم العقل بضرورة العقل: فيجب أن يكون المعلوم بضرورة العقل صحة وجودهم لا مجرد إمكان وجودهم؛ لأن أهم ضرورات العقل ما كونته ملكته من براهين بالخبرة البشرية؛ والخبرة البشرية كما أسلفت أثبتت وجودهم، والعلم بوجودهم أبلغ من العلم بإمكانه؛ وإلى لقاء في موضوع آخر إن شاء الله تعالى, والله المستعان.